قصة أسرة نصحها أبوها ولكنها ما انتصحت!!
كان رجلا كبير السن شيخا وقورا، شهما كريما، قد رزق بأسرة كانت تطيعه، وتأتمر بأوامره، كان يقودها بكفاءة
إدارية فطرية حباه الله إياها، فقام بتأديب أولاده تأديبا مناسبا.
رباهم تربية أخوية، علمهم الاحترام والتوقير المتبادل، ولكن مهما طال الزمن، فإن الحياة لا تدوم، ولا بد أن تغيب شمس الأخيار، ولو بعد حين.
في فترة رخاء، في فصل الربيع، وقد اخضرت الأرض، ولبست رداء أخضر، وطابت الثمار، واستو الظلال، وظهر العشب والكلأ، ووضعت الأنعام أحمالها، ودرَّ ت الألبان في الضرع، وفي الصباح، إذ بدأ الرعاة تسرح الإبل والغنم والبقر، ناحت السيدة (عورلا) زوجة السيد (عوالي) سيد القبيلة وقائدها الملهم، ناحت من كوخها الذي ظل السيد فيه في الأيام الماضية يعالج ويطبب، معلنة بأن السيد يحتضر وبدأت نفسه الحشرجة، وهو يطلب أن يجتمع الأولاد كلهم، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، ليدلي بوصيته الأخيرة، قبل أن يودع الدنيا، ويلفظ أنفاسه الأخيرة،
وليقرر لهم الدستور الذي كان يقود القبيلة على ضوءه، ويريد أن تسير عليه ذريته من بعده إلى الأبد.
اعلنت حالة الطوارئ، وبدأت بعض النسوة بالبكاء والنحيب، وظهر الاكفهرار من على وجوه الجميع، النَفَسُ يتردد، وبلغت القلوب الحناجر، وذهب كل واحد يسرح ويبحر في الشرود، متصورا عما تؤول إليه الأمور، وكيف يواجه الوضع بعد أبيهم، الذي طالما أخرجهم من الشدائد، وقادهم إلى بر الأمان، في الملمات التي تبدو وكأنها القاضية.
في وسط هذه التساؤلات، اجتمع الأولاد، وتحلقوا حول الشيخ، محدقين أعينهم عليه، ينتظرون عما يتلفظ به.
طلب من زوجته أن تجلسه .. ألقى عليهم نظرته الأخيرة، قائلا لهم:
“يا قوم، يا أبنائي وأحفادي وعشيرتي، إنه قد نزل بي ما ترون، وإني مفارقكم لا محالة، فما خُّلِد أحد قبلي، وأنا سائر حيث ساروا؛ وإني موصٍ، فأعيروني القلوب والأسماع جيدا:
إنكم بحمد الله من واحدة، ومنبت واحد، وعلى طريقة واحدة؛ بها قد ربيتكم، ومن لبنها أرضعتم، ومن نسيمها استنشقتم، فحافظوا هذه الوحدة،وكونوا إخوانا متحابين متراصين، متعاضدين متماسكين، فإن الوحدة نعمة ومنة، فلا تفرطوها، وإياكم ومخلات الود والحب والوحدة من الأنانية المفرقة، فإنها سبب التباغض والتدابر والتحاسد الذي هو أصل كل بلية، وسبيل كل نقمة (منه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم
من الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقح الشر بين الحلفاء)
كونوا يدا واحدة على من سواكم، ولا تجعلوا للوشائين فُرجة ينسلون منها، ولا سببا للوقيعة بينكم، فإن أعداءكم لا يملون ولا ينامون، بل يسهرون ليل نهار، ويخططون لتشتيت شملكم، وتفتيت وحدتكم، وإذهاب دولتكم، لتكونوا أثرا بعد عين!
حافظوا على هويتكم وثقافتكم المميزة، ولا تفرطوا فيها فهي صمام أمانكم، وسبب لعزكم ووجودهم، وبقائكم أقوياء مرهوبي الجانب، وإياكم والظلم والخيانة، وجميع مساوئ الأخلاق التي تشين الأمم وتخرجهم من سياق التاريخ، واحذروا من أن تشيع الفاحشة فيكم، فهي أم القبائح، وحافظوا على المكارم التي ربيتكم عليها….
والزموا المشورة في أمركم”
فما إن نطق – السيد عوالي – بالجملة الأخيرة بصوت منخفض معلول، تبدوا منه علامات الحشرجة والاحتضار، إلا وقد انقطع الصوت من الانبعاث، وخيم المكان هدوء وسكوت قاهر، وتيقن الحضور أن السيد فارق الحياة، حتى اضطربت النفوس وبلبلت الأفكار، فقام أسنُّهم، وهو يتلعثم ويتتعتع، ويتقوقع ولا يستطيع أن يستوي قائما، لشدة الهول والمصيبة، إلا أنه وبتجلد الرجال حاول عبثا أن يتماسك ويظهر في صورة رابط الجأش، فهدأهم وأوصاهم بالصبر والاحتساب، وأمرهم بتجهيز جنازة السيد، والاسراع في حفر قبره، ليوارى سوءته، وليوضع في بيته الأخير.
فماذا حدث بعدها؟ وكيف كانت حياتهم بعد أبيهم؟ وهل التزموا نصيحته وتراثه؟ أم تاهوا وضيعوا وبدلوا؟
سوف نرى ذلك في الحلقة التالية.