الصومال والإستعمار….. الاستعمار الإيطالي:
لقد كانت إيطاليا متخلفة عن الدول الاستعمارية الأوربية الأخرى بسبب ظروفها الداخلية حيث كانت مقسمة إلى أقسام وإلى مدن وممالك متعددة، وعندما استطاعت أن تتحد وتكون دولة إيطاليا الموحدة وجدت أن الدول الأوربية الأخرى قد سبقتها إلى أكبر المناطق الإستراتيجية فى إفريقيا، فتمكنت من إيجاد موقع استراتيجي لها فى أرتيريا، علما بأن الدول الأوربية كانت تتنافس فى التحكم فى مداخل سواحل البحر الأحمر ثم اتجهت أنظارها إلى منطقة أخرى يبدو أنها كانت شبه خالية من التنافس الإستعماري، تلك هي المنطقة الجنوبية من الصومال عدا شريط ساحلي ضيق تابع بصفة اسمية لسلطان زنجبار، فبدأت فى تنفيذ خطة لإستعمار واحتلال هذه المنطقة. [1]
بعثة تشيكى:
تنفيذا لخطتها أرسلت إيطاليا بعثة اشتهرت بـ “بعثة تشيكى” نسبة إلى قائدها (Cecchi) على السفينة الحربية “بارباريجو” إلى مصب نهر جوبا، وكلفته بالإبحار فى النهر حتى آخر نقطة صالحة للملاحة فيها، وزيارة أقاليم الصومال الغنية وإعداد تقرير شامل عن هذه المناطق للتعرف على إمكانية استغلالها. [2]
ورغم أن هذه البعثة لم تحقق هدفها ذاك ، إلا أنها وصلت إلى زنجبار، وقابل تشيكي “السلطان” برغش” وهو الذى يهيمن على المناطق الصومالية التى تنوى إيطاليا الدخول فيها. وكان هذا السلطان يحكم المناطق الصومالية تحت شعار خليفة الإسلام مما كان له أثر فى نفوس الصوماليين المسلمين. [3]
لقد دخل تشيكي فى مفاوضات مع السلطان وقد أظهر نيته فى إيجاد منظقة قرب مصب نهر جوبا ليقيم معها علاقات تجارية، مما أدى إلى إثارة شكوك السلطان فى نوايا إيطاليا، وأظهر عدم قبوله للأمر، كما رفض السلطان منح الحكومة الإيطالية أي ثغر على ساحل صوماليا. فأراد تشيكي أن يستخدم القوة للوصول إلى أغراضه إلا أن القنصل الإنجليزي فى زنجبار تدخل فى حل النزاع، فانتهى الأمر إلى عقد معاهدة بين تشيكي الممثل الإيطالي والسلطان برغش حاكم زنجبار ومما سهل عقد هذه الإإتفاقية أن بريطانيا كانت ترغب فى إيجاد حليفة لها فى المنطقة. [4]
وقد عادت بعثة تشيكي إلى روما، وكانت المعاهدة مع السلطان أكبر نجاح حققته البعثة، بعد ذلك طلبت إيطاليا من السلطان التنازل عن منطقة كسمايو، لكنه تباطأ فى الردعلى الطلب مما أدى إلى استخدام إيطاليا القوة، فأمرت بعض سفنها لاستخدام القوة وإخضاع السلطان، لكنه استنجد ببريطانيا وألمانيا، فأعلنت بريطانيا تصريحا قالت فيه: “إننا لا نقبل استخدام العنف مع السلطان”. [5]
عند ما سمع الصوماليون أخبار تنازع الدول الأوربية على مناطقهم قاموا بثورة ضد السلطان، وأصدروا بيانا يقولون فيه: “إننا لا نعترف بك إماما لنا ولا بتعهداتك مع الدول الأجنبية، وسنقيم لنا دولة مستقلة إذا لم تحم البلاد من تدخل الأجانب” فأعلن السلطان تأييده لهم وأنه سيحمي البلاد من التدخل، ولا يمنح أو يتنازل عن أية بقعة لأي أجنبي. [6]
ومع هذا تطورت الأمور بسرعة فانفجرت ثورة عارمة فى شرق إفريقيا فى شهر سبتمبر 1888 ضد الوجود الأوربي ممال جعل ألمانيا وانجلترا تقومان بفرض حصار بحري على السواحل الشرقية للقارة، ودعت ألمانيا الحكومة الإيطالية للإشتراك فى هذا الحصار وقد رحبت إيطاليا بهذا العمل وأرسلت تعليماتها إلى السفينة الحربية “دوجالى” للإشتراك فى الحصار لإخماد الثورة حتى لا تمتد إلى مستعمرات أخرى. [7]
ونتيجة لهذا الحصار فقد نكث السلطان عهوده مع الصوماليين وخضع للضغط وتخلى عن مناصرة وحماية الصوماليين، مما أعطى إيطاليا حرية فى تنفيذ خطتها الإستعمارية، فرفعت حصارها عن بعض المدن والمناطق، بينما واصلت حصارها على مناحق أخرى. وقد أتاح هذا الحصار لإيطاليا فرصة التعرف على المناطق الصومالية والصوماليين، وخاصة التعرف على الشخصيات التى يمكن استمالتها، فبدأت تتصل بهؤلاء الأشخاص وتعقد معهم معاهدات واتفاقيات لصالحها مقابل الوعود الكاذبة والأموال. [8]
وركز الإيطاليون نشاطهم فى المنطقة الواقعة شمال أملاك سلطان زنجبار إلى حدود الصومال البريطاني المطل على خليج عدن ونجح الإيطاليون فى جمع توقيعات الشيوخ والسلاطين المحليين على معاهدات الحماية. [9]
وكان أول من وقع معاهدة حماية مع الإيطاليين السلطان عثمان محمود الذذي أعلن أنه مستقل تماما عن سلطة هوبيا (فى جنوب شرق الصومال) وكذلك سلطان هوبيا يوسف، وكان ذلك عام 1889م [10] حيث وقعت إيطاليا وثيقة مع السلطانين بشأن وضع بلادهما تحت الحماية الإيطالية وطبقا لقرارارت مؤتمر برلين 1884 – 1885م فقد أبلغت إيطاليا الدول الأوربية بذلك. [11]
بعد ذلك بدأت إيطاليا تعقد مع الزعماء الصوماليين معاهدات حماية وواصلت توسعها فى المناطق الداخلية بعد ان كانت مسيطرة على السواحل والمدن السواحلية.
يبدو من المعاهدات الإيطالية مع شيوخ وزعماء القبائل أن هؤلاء الزعماء يضعون أنفسهم تحت رحمة الإيطاليين ويستسلمون استسلاما نهائيا.
وهذا النص التالى خير دليل على هذا الأمر، وحالة الضعف الذى لحق يهؤلاء الزعماء، فيقول أحدهم وهو يكتب إبراما لمعاهدة مع الإيطاليين:
“أقول أنا السلطان ———- سلطان أهل بوساسو جميعا أنى طرحت ووضعت وجهى وصحيحى بيدى فى هذه الورقة على أنى بذلك تحت حكم دولة إيطاليا الفخيمة والسلطان المعظم (أمير توبريمو) وعلى يد القنصل (فيلو ناردي والكولونيل فريجانا — قبطان يوشيللى) عندى بنديرة إيتالية (راية إيطالية) فخيمة لأنشرها فى تلك الناحية المذكورة من رأس عوض حتى رأس عجل، وكل من جاءنى من الدول الثانية إفرنج أو غيرهم أو العرب لا أعطيهم من جواب وكل (ما) يحصل على ذمتى لإيطاليا وجماعتى فعلي، وأنا أقول كتبت هذه الورقة برضائي مختارا على نفسى وعلى كل من يلونى من أخوانى وذريتى من بعدى بإقرار منى وأنا بكامل عقلى وصحة بدنى والسلام.
وحرر هذه المكاتبة فى بندر علولة، السلطان———-“[12]
توضح هذه الوثيقة مدى الاستسلام الذى يبديه بعض الزعماء الصوماليين لإيطاليا، ناسين كل هويتهم وإمكانياتهم ووطنهم المقدس ويبدو أن هذا الخطاب المتواضع إلى حد بعيد شجع الإيطاليين على مواصلة الإستعمار والإستبعاد والتوغل فى الأراضي، وكل من يحاول التصدى تحاربه إيطاليا وباستخدام هؤلاء العملاء. والجدير بالذكر أن أهم ما يجنيه هؤلاء السلاطين من وضع أيديهم تحت الإستعمار هو الجنيهات أو الريالات التى تدفعها إيطاليا سنويا لهم إضافة إلى بعض الإمتيازات والألقاب التى تسبغها عليهم.
وهكذا استطاعت إيطاليا أن تضع أقدامها على الأراضى الصومالية وبادعاءات قانونية بسبب المعاهدات والاتفاقيات غير الشرعية مع السلاطين والزعماء الذين افتقروا للخبرة الكافية والغيرة الوطنية.
ومما ساعد الإيطاليين على إبرام المعاهدات وجود المجتمع القبلي القديم، فالنظام القبلي وقيام التطاحن بين القبائل وبعضها، أو التشاحن داخل القبيلة الواحدة بسبب الرئاسة أو من أجل المراعى أو السيطرة أو بسط النفوذ وغير ذلك من مساوئ النظام القبلي الذى نتج عنه وجود مجتمع صومالي مفكك على صورة سلطنات مستقلة وفى تشاحن مستمر، كل ذلك أتاح للإيطاليين أن يتوغلوا فى البلاد باسم الحماية والمحافظة على النظام.[13]
وبعد هذا النجاح الذى حققته إيطاليا خطت خطوة أخرى إلى تحقيق أهدافها وغاياتها والتى كانت منها إنشاء مستعمرة إيطاليا فى صوماليا. وهذا لن يتحقق لها إلا بعد أن تسير على النمط الذى تسير عليه دول الاستعمار كبريطانيا وذلك بتكوين شركات تجارية واستغلال خيرات البلاد.
يبدو أن بريطانيا كانت تتابع هذه التطورات، وكانت راضية عن ذلك بدليل تشجيعها لإيطاليا وتسهيل عقباتها، ثم جاءت الخطوة المهمة التى تدل بوضوح على موقف بريطانيا، وهي عقد المعاهدات مع إيطاليا كاعتراف لحقها فى هذه الأراضي. وبهذا دخلت إيطاليا فى مفاوضات مع بريطانيا التى كان يمثلها مدير الشركة البريطانية صاحبة الإمتيازات فى منطقة كسمايو قبل مجيء إيطاليا (مستر ماكينون)، وكان (سينور كالينى) القائم بأعمال السفارة الإيطالية فى لندن يمثل جانب إيطاليا، وتمت اتفاقية بينهما فى : 03/08/1889م تنص على تسليم المناطق الساحلية الممتدة من كسمايو وبراوي ومركة ومقديشو وملحقاتها وورشيخ إلى وكلاء إيطاليا وذلك على نفس الشروط والإمتيازات التى كانت تتمتع بها الشركة البريطانية.[14]
وفى 18/11/1889م قامت الشركة البريطانية بالتوقيع على عقد تسليم هذه الأراضي مع حكومة إيطاليا. وكانت بريطانيا اشترطت على موافقة السلطان زنجبار لكنه توفى فى يوم: 19/11/1889م فأسرعت إيطاليا بإبلاغ الدول الأوربية فرض حمايتها بصفة رسمية على سواحل الصومال الشرقية، كما أن السلطان الجديد (على بن خليفة) ترك الحرية للمستعمرين فى المنطقة.[15]
وبهذه الإتفاقية التجارية بين إيطاليا وبريطانيا حققت إيطاليا هدفا مهما، حيث جعلت أعمالها فى المنطقة معترفة بها بصفة رسمية ومن قبل أكبر الدول الإستعمارية منافسة وهي بريطانيا، والتى كان هدفها من وراء تشجيع إيطاليا والتسهيل لها على احتلال المنطقة: إيقاف الفرنسيين وحصرهم فى مستعمرتهم (أبوك). [16]
وهكذا تكونت المستعمرة الإيطالية فى جنوب الصومال والتى عرفت فيما بعد “بالصومال الإيطالي”
المراجع
[1] . أحمد برخت ماح، المرجع السابق، ص:229.
[2] . تمام همام تمام، المرجع السابق، ص:14.
[3] . أحمد برخت ماح، المرجع السابق، ص:229.
[4] . المرجع نفسه، ص:230
[5] . حمدى السيد سالم، المرجع السابق، ص: 144.
[6] . احمد برخت ماح، المرجع السابق، ص: 231.
[7] . تمام همام تمام، المرجع السابق، ص:15.
[8] . أحمد برخت ماح، المرجع السابق، ص:232.
[9] . تمام همام تمام، المرجع السابق، ص: 15.
[10] . انظر: www.historyofnations.net/africa;/somalia.
[11] . عبدالله عبدالرزاق إبراهيم، أثر الصراع الأوربي على القرن الإفريقي فى أواخر القرن التاسع عشر (المسح الشامل لجمهورية الصومال) ص: 776.
[12] . أحمد برخت ماح، المرجع السابق، ص:235.
[13] . حمدي السيد سالم، المرجع السابق، ص: 148.
[14] . أحمد برخت ماح، المرجع السابق، ص: 236.
[15] . المرجع نفسه، ص: 239.
[16] . د. عبدالله عبدالرزاق إبراهيم، المرجع السابق، ص: 776.