تلاميذ الإمام أحمد بن إدريس ودورهم التجديدي
الذي يتضح مما سبق أن الطريقة الأحمدية أو الإدريسية حملت على عاتقها مهمة الإصلاح والتجديد الديني عن طريق الثورة على كثير من المألوفات الدينية داخل الطرق الصوفية ، وإلا لم يكن لها ما يبرر وجودها كحركة مستقلة تُرمى من قبل الطرق الأخرى بالسهام الجارحة ، وهذا واضح كل الوضوح من التعاليم التي نادى بها مؤسس الطريقة ، والتطبيقات التي عرفت من أتباعها في كل البلاد التي وصل تأثيرها فالصالحية في القطر الصومالي من فروع الأحمدية ، ولها مواقف معروفة تميزت بها عن غيرها من الطرق الصوفية في العالم الإسلامي.
والمقصود أنه برزت في القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين الثاني والثالث عشر الهجريين في العالم الإسلامي حركات تحررية انطلقت من التجديد الديني والإصلاح الاجتماعي كأسلوب لمجابهة طلائع الاستعمار والتبشير التي داهمت العالم الإسلامي، وأتت بتطورات جديدة وفدت على الثقافة الإسلامية، وهذا لا يتأتى إلا بعد التخفف من كثير من الأوزار وأغلال التصوُّف التي تسربت إلى حياة المسلمين ، وأسلمتهم إلى الجمود وبلادة الإحساس ، والقاسم المشترك بين تيك الحركات أنها تأثرت بصورة أو بأخرى بالحركة الإصلاحية التي نشأت في الجزيرة العربية فأن شرارتها طارت إلى آفاق العالم الإسلامي .
كما يظهر أيضا بوضوح تام أن الحركة الإدريسية كانت محاولة لتجديد الإسلام ، بعد أن جدَّ في العالم الإسلامي ظروف الاستعمار الأوربي وهو ما تؤكده معظم المصادر التي تناولت آراءه الفكرية ومشروعه التغييري ، ويؤيد ذلك أيضا أن رواد هذه الحركة أصبحوا قادة الجهاد أينما حلّوا في العالم الإسلامي وقيامهم بالتجديد وإحياء شرائع الإسلام . ونذكر من بين هؤلاء من تلاميذ الإمام أحمد بن إدريس على سبيل التمثيل وليس الحصر:
- السنوسي ، محمد بن علي الإدريسي
مؤسس الطريقة السنوسية إحدى الطرق الصوفية ولد بالجزائر 1787م وتوفي بواحة جغبوب التي اختارها مقرا لهذه الطريقة، عام 1859م كان السنوسي أحد تلاميذ السيد أحمد بن إدريس، وصحب معه كثيرا، ثم تفرغ لنشر الإصلاح الديني بطريقة صوفية وقد انتشرت السنوسية في الجزائر وفي معظم بلاد شمال إفريقيا وغربها. وتعد السنوسية إحدى حركات الإصلاح التي شهدها شمال إفريقيا وغربها في القرن التاسع عشر تدعو إلى العودة بالإسلام إلى ماضيه المشرق، وتكوين مجتمع إسلامي صرف في نظمه وتقاليده وعاداته[1]. ونادت بالاجتهاد في الفقه والتشريع الإسلامي. وكان لها دور لا ينكر في مقاومة الاحتلال الإيطالي والفرنسي [2]. وقد أنشأ السنوسي حركة إصلاحية وطريقة صوفية وشدد على الاعتبار بالكتاب والسنة على طريقة ابن عبد الوهاب وسلفه ابن تيمية ، وفتح باب الاجتهاد ، ” ولا يتقيد بالمذاهب مع بقاء احترامه لها ” مع تنقية الدين من البدع[3] ورغم أن السنوسي لم يعاصر ابن عبد الوهاب ( ولد السنوسي قبل وفاة ابن عبد الوهاب بخمس سنوات) إلا أن رحلته-أي السنوسي- إلى مكة جعلته يكتشف فكر ابن عبد الوهاب عن كثب من خلال آثاره التي تركها وتلاميذه الكثيرين، فتأثر به كثيرا، وخفف من البعد الصوفي ليحل محله البعد العقدي الجهادي المتمثل بالعمل الحثيث على إصلاح عقائد المسلمين، ومحاربة البدع، مع التجهز وإعداد العدة لمواجهة الأعداء المتربصين بالأمة بالدوائر، والعمل الجاد من أجل إيجاد الدولة الإسلامية التي تستطيع تحمل أعباء الإصلاحات الداخلية ومواجهة الخطوب الخارجية[4]. وكان من مبادئ حركته التجديدية داخل البيت الصوفي أن الخمول والاستجداء الذي كان طابع أغلب الطرق الصوفية ليس من الإسلام في شيء.
ومن الوسائل التي اعتمد عليها السنوسي إنشاء الزوايا، والزاوية مركز دينى وثقافى واجتماعى وعسكري، فكان يرسل أحد أتباعه إلى جهة ما، أو يطلب سكان الجهة منه أن يرسل لهم أحد أتباعه لنفس الغرض، ويتم إنشاء الزاوية في الجهة، وتنشأ الزوايا في مكان حصين، على جبل أو نحوه لتكون أشبه بالقلعة إذا احتاج الأمر للدفاع عنها، ويختار مكانها في مفارق الطرق حتى تكون على صلة بالزوايا الأخرى، ولتكون معها شبكة ضخمة، ويقوم على الزاوية (مقدم) هو شيخها والقائم عليها، وهو يتولى أمور القبيلة أو الناحية، وله وكيل يتولى (الدخل والخرج)، وينظر في زراعة الأراضى، وجميع الشئون الاقتصادية[5].
وفي توضيح ذلك يقول الكاتب المجاهد بقلمه أنور الجندي : “بعد مائة عام من قيام الحركة الوهابية كفكرة ، ثم تحولها إلى عمل سياسى فى ظل دولة ، قامت الحركة السنوسية التى حولت فكر ابن عبد الوهاب – مع بعض الإضافات – إلى جماعية قوامها زوايا بلغت المائة والأربعين ، ممتدة فى تونس والجزائر ، وفارس وبرقة ، ومصر والحجاز ، واليمن والسودان ، والهند وتركيا ، وكلها متصلة اتصالا وثيقا كاملا بمركزها العام فى زاوية ” جغبوب ” ، وتقوم هذه الزوايا على نظام عملى شامل ، قوامه العبادة والرزق والثقافة ، حيث تضم مسجدا ، ومدرسة ، وحقلا ، ومصنع أسلحة[6] .
وقد وصل نشاط السنوسية إلى بلاد الحبشة فكانوا يرسلون إليها في كل عام دعاة من هرر حيث تتمتع السنوسية بنفوذ كبير . وتكاد تجد كل الرؤساء منهم في بلاط الأمير بلا استثناء ” [7] كما وجدت إشارات إلى وجود اتصالات بين زعماء السنوسية في هرر وبين السيد محمد بن عبد الله حسن.
- المهدي في السودان:
تعتبر الحركة المهدية في السودان في القرن التاسع عشر إحدى الحركات الإصلاحية، وقد تأثر أحمد المهدي (1844-1885م) بالختمية التي أسسها الإمام عثمان الميرغني الكبير(1793-1853م) تلميذ أحمد بن إدريس الفاسي وهو أول من أدخل تعاليم المدرسة الإدريسية في السودان؛ لكن المهدي اختلف معه من نواحي عديدة منها تفسير لفظ المهدي، ودعوة الختمية إلى العودة إلى الإسلام عن طريق تربية المريدين تربية روحية على غرار الصوفية بشكل سلمي بينما رفعت المهدية شعار العودة إلى الإسلام عن طريق الاستيلاء على السلطة، والثورة المهدية تتفق مع معظم حركات الإصلاح التي شهدها العالم الإسلامي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين والتي طالبت بإحياء الشريعة ثم إن المهدية قامت على مجموعة من المبادئ والدعامات كما يقول د. عجيل النشمي:
الدعامة الأولى : فهم الإسلام بيسر وسهولة من خلال الكتاب والسنة ، فلا حاجة للوسائط بينها وبين العباد فالإسلام دين الفطرة يفهمه المسلم دون عناء أو مشقة؛ ولأجل هذا بادر المهدي بإبطال العمل بالمذاهب الأربعة وإبطال الطرق الصوفية بحجة أن المذاهب والطرق مسئولة عن حجب الحق والنور عن الناس فينبغي أن يستقي الناس من الكتاب والسنة مباشرة دون واسطة كما منع الناس من زيارة أضرحة الأولياء التي كانوا يزورونها قبل المهدية يقول في أحد منشوراته ” لا تستغيثوا بأحد من دون الله ،ولاتطلبوا أحدا دون الله ولو نبيا رسولا أو ملكا …فجميع الأنبياء والمرسلين دعوا إلى وحدانية الله فلا تتوهموا وتنسبوا إلى رجل صالح شيئا أو تطلبوا منه شيئا ، فإن ما سوى الله يقطع النظر عن الله تعالى ، قال الله تعالى ” وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو “[8].
الدعامة الثانية : أن روح الدين الإسلامي وحياته إنما هي في التطبيق لا في النظرية ، فهو دين جاء ليحكم الواقع ويحدد اتجاهه ، وهو يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شئون الحياة فهو دين شامل بكل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتبعا لذلك فلابد من الامتثال لأوامر الشرع واجتناب نواهيه وقد قال : ” طريقنا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ومذهبنا الكتاب والسنة ، ما جاء من عند الله على رؤسنا ، وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم على رقابنا ، وما جاء عن الصحابة إن شئنا عملنا به ، وإن لم نشأ تركناه ” .
والدعامة الثالثة : ادعاء المهدية رغم كون المهدي سنيا مالكيا فقد قامت الحركة المهدية منذ ابتدائها على اعتقاد أن محمد أحمد هو المهدي المنتظر ودعا إلى مقاطعة الكفّار وعدم موالاتهم فقد جاء في كتابه إلى الخديوي توفيق إسماعيل (1852 -1892م ) : ” ما كان يحسن منك أن تتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتستعين بهم على سفك دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ألم تسمع بقول الله عزّ وجلّ ( ياءيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )[9] . هذا ، وقد توفي زعيم الحركة المهدي 1885م بعد أن أقضت مضاجع الاستعمار البريطاني مدة أربع سنوات وخلفه بعده خليفته عبد الله التعايشي وما لم لبثت أن انتهت المهدية بسقوط حكمها في 24 نوفيمبر 1899، بقيادة خليفة المهدي وخضع السودان بعدها للحكم الأجنبي[10].
- الطريقة الصالحية،
وتنسب إلى محمد بن صالح، وهو ابن أخ إبرهيم الرشيد أحد تلاميذ أحمد بن إدريس مؤسس الطريقة الأحمدية، وقد توفي محمد بن صالح عام 1919م.
وأتباع الطريقة الصالحية برزوا بقوة في الإقليم الشمالي من الصومال ،كما كان لهم وجود أيضا في الإقليم الجنوبي، ولهم حكمة سياسة وحكمة لا توجد في غيرهم [11]، وتشارك الصالحية الطريقة الأحمدية التي تفرعت منها ومعظم الحركات الصوفية التي مستها يد الإصلاح مطالبتها بإحياء الشريعة والرجوع إلى الكتاب والسنة ورفض بناء القباب والمزارات باعتبارها وسيلة إلى الشرك بالله العظيم في العبادة ، وتنقية التصوف مما علق به أي الدعوة إلى التصوف المنضبط بالوحيين وإجماع الأمة، كما تميزت الصالحية بالنزعة الجهادية والدعوة إلى بناء الدولة وإقامتها عبر الجهاد كما فعل السيد محمد عبد الله حسن مؤسس حركة الدراويش وأبو الكفاح الوطني ضد الاستعمار في أوائل القرن العشرين، والشدة على محاربة الاستعمار[12]. وسنفصل في حلقة لاحقة بإذن الله جوانب التجديد الإسلامي في فكر السيد محمد رحمه الله.
المراجع
[1] – د، حسن أحمد محمود ، الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا ص: 220، ط دار الفكر العربي 1426/2006م
[2] – أطلس التاريخ الإفريقي (الهامش)، تأليف كولين ماكيفيدي . ترجمة: مختار السويفي ) ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م ص:173.
[3] – أحمد صدقي الدجاني : الحركة السنوسية : نشأتها ونموّها في القرن التاسع عشر . بيروت دار لبنان 1967م ص: 75 بواسطة طارق البشري الوضع القانون المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي ص: 9
[4] – أشار إلى وجود هذا التأثر مجموعة من المؤرخين منهم: أحمد أمين في كتابه (زعماء الإصلاح )، ص 21 ، والدكتور أحمد حسن محمود، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا، ص21 والدكتور حسن إبراهيم حسن، انتشار الإسلام في القارة الإفريقية ص: 47، ومحمد علي الصلابي في كتابه عن الحركة السنوسية، والدكتور فؤاد عبد الرحمن البنا، تيارات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث، ص63، ط ثانية 2010 الناشر مؤسسة أبرار.
[5] – مـُخْـتَـصَر (الفَوَائِدُ الجَلِيّةُ في تَاريخ العَائلة السَنُوسِيَّة)القسم الأول لمؤلفها وجامعها عبد المالك بن عبد القادر بن علي 1386 هجري – 1966 م بواسطة ويكبيديا. ar.wikipedia.org بتاريخ 14 /08/2015م.
[6] – أنور الجندى : تاريخ اليقظة الإسلامية – ص 50
[7] – ص: 48 من المصدر السابق
[8] – نقلا عن :الأصول الفكرية لحركة المهدي السوداني ودعوته للدكتور عبد الودود شلبي ص : 215 بواسطة مذكرة أعدتها جامعة إفريقيا العالمية ص: 134، 135
[9] – إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة للدكتور عجيل النشمي –جامعة الكويت، انظر أيضا مذكرة أعدتها جامعة إفريقيا العالمية لطلاب الشهادة العالمية ص : 118
[10] – د. عبد الله عبد الرزاق إبراهيم، الطرق الصوفية في القارة الإفريقية، ط أولى 2004م. دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة.
[11] – حمدي السيد سالم، الصومال قديما وحديثا، جـ1 ص 416 ط 1965م.
[12] – حمدي السيد ، مصدر سابق.