كنت أدلف في الشّارع الممتدّ ما بين مسجد حَريد والتقاطع المسمّى بَار أُبح في مقديشوا متثاقلا، وكانت شمش الظّهيرة ضربت خيامها عليّ، تلا حقني من حدب وصوب، وكنت أتضوّع جوعا، فحاولت أن أبحث لقمة عيش لسدّ موجة الجوع الذي كان يبتزّ بأحشاء معدّتي، فدخلت مطعما كان مكتظّا بالزّبائن ظناّ بأنه مطعما يجهّز أطعمة ووجبات عاليّة الجودة ، فكما كانت العادة السائدة في المحيط الإجتماعيّ قمت بغسل يديّ بصابون يستخدمها الجميع للنظافة فبل الأكل وبعد الأكل، فقعدت متلهّفا بالأكل ألشهيّ.
فعندما حضر لي الجرسون وجبة الطعام، بدأت التهم ذلك الرّغيف مع حساء مخلوط بالغدد والأوردة، فعلا أكلت إلى حد التخمة، وبدأت المعدّة تتصارع بما فيها من الأضداد، دفعت ثمن الوجبة؛ وطلعت من المطعم باحثا بإشتناق الهواء الطلق، وفي يدي اليسرى عود أتخلّل به لإزالة بقايا الطعام من أسناني.
فبينما ومضات الهشّة والبشّة تظهر من ملامح وجهي، وكنت في منتصف شارع بَارأُبح ، بصدفة تعرضت بطلقات ناريّة وقعقة الرّصاص، فأنبطحت على الأرض ولم أعد
أتمرّغ بها كأنني أداعب مع ملك الموت، ياللمفاجأة!!. تحوّل الجوّ المرِح إلى كآبة ومناخ تشوبه صيحات النّسوان وآهات المصابين وعويل كلاب السّوق، بالفغل قامت الدنيا ولم تقعد في تلك الظهيرة، وأشعة الشمس تلفح وجهي، والعرق يقطر من جبيني ومن إبطي كقطرات المطر الغزير، في تلك اللحظة الخانقة كلّ من هبّ ودبّ وأختفى حاميا نفسه من شبح ذالك الموت المحدّق، والمليشيات المأجورة من قبل أحد لوردات الحرب بدأت تقتل الجميع بدون أيّ تمييزلمن هو المستهدف ومن هو البريء.
فبينما أنا بين الكرّ والفرّ والرّصاص الطائش تدقّ مسامعي وجدت زقاّ فتسلّلت فيه هاربا من من جحيم الموت، متنا سيا بأن الموت يستطيع أن يلاحقني في أيّ مكان وزمان. فبعد وصولى إلى سوق بَكارى، جلست جنب الرّصيف طالبا من أحد .المارّة جرعة ماء لسدّ الرّمق ، فتجرّعت الماء جرعة تلو جرعة, فعقب تلك الجرعات المتسارعة حاولت الإتّصال بالأسرة للعثور على آخر التّطورات الميدانية في تقاطع بارأُبح، ولكن للأسف الشديد ضاع الهاتف، وكان من الطّراز القديم، هاجت أعصابي بسبب هذه الورطة، فبعد برهة وجيزة إستمعت النشرة الإخبارية ألتي بثتها إحدى الإذاعات المحلية ألمملوكة من قبل رجل أعمال قبلي، والعاصمة بقضّها وقضيضها كانت أنذاك تحت هيمنة قوى القبائل ألمتحالفة بالشرّ والخيروالمتناطحة في كل شاردة وواردة، ملخص تلك النشرة الإذاعيّة كان يوحي بأنّ أحد مصّاصي الدّماء شن ّهجمة لاذعة على تقاطع بَارأُبح لأخذ الّثأر. بالذّات كانت هجمة بربرية وغوغائية بكل مالهذه الكلمة من معنى. فبعد ذالك اليوم ألكئيب تغيرت حياتي، وأصبحت لأ أخاف من شبح الموت ألمطلّ علينا من زاوية من زوايا الحياة.
من المذهل أنّ هذه الحادثة ألحالقة تركت بصماتها ألواضحة على نفسي، وجعلتني أعاني من الصدمة النفسية والخوف ألذي يلاحقني كالظّل، فدوما عندما أكتحل برؤية شاب مغرور مدجج بالبندقية كنت أتخيّل بأن لديه ألضّوء ألأخضرلقتلي، وبسبب الحادثة ألرهيبة كنت أعيش في عالم مليء بالإضطراب النّفسي والفوبيا، مما أثّر تأثيرا سلبيّاّ على سلوكي ألإجتماعيّ، أدهى وأمرّ ن ذالك أنني لم أَرِو هذه الحادثة لوالديّ، لأنّني على علم بأن علاقتي معهما كانت مبنية على المدّ والجزر، كما هو الحال لدى السّوادالأعظم من أبن أبناء جلدتي وأقراني، لذالك كنت أنظر ألأمور بمنظار قاتم بسبب ذالك الإحباط ألذي إجتاح نفسي، مماجعلني أجهش بالبكاء في كل مرّة أستمع أخبار الموت والإشتباكات.
ياألله!! كانت الإذاعات المحلية بمثابة بوق من أبواق الموت والإرهاب، لأنها كانت تبث خبرالموت والكراهيّة بدون أدنى مسؤولية واعية.
في نهاية المطاف، وبعد معاناة قاسية جدّا بدأت أتكّيف بذاك الجو الشيطانيّ المفعم بقوى الشرّ، بعد أن سأمت الخروج من هذا المأزق، وأوصلني الحال إلى طريق مسدود، فكنت أتخبّط خبط ناقة عشواء في إستيعاب الأشياء والحوادث، فكل تارة أسمع أخبار الموت كانت تنتابني الضحكة، ويالها من ضحكة فارغة!! فمضمون تلك الضحكة كان الهوس ألنّفسي المخيّم على القاصي والداني من المجتمع الصّومالي الغارق في بحار الكراهيّة والأنانيّة، وممّا يغضّ مضاجعي إلى يومنا هذا أن مقديشوا [منبع حياتي ومنبت طفولتي] لاتزال تحت رحمة كلاب جهنم المتقمّصين برداء الإسلام، ممّا أدّى ألى أن تكون مقديشوا وصمة عار يندى لها الجبين.
أخيرا، يمكني أن أقول بكل حزم وجزم أنّ الدروس ألتي إقتبست من تلك الحاددثة هي أنه أحيانا يتحتّم علينا اللّعبة مع الخطرألقائم، لعلّنا نحصل السّعادة من حيث لا سعادة يُذكر، وأن نكون غرباء الأطوار، ونشقّ عصا هذه الطاعة العمياء، وكسر اجز الخوف، وأن نمشي عكس إتّجاه الرّكب، لعلّنا نجد ذوقا لا مثيل له في الحياة، فالمشي مع القافلة دائما يورث الخمولة والغباوة، وذالك لايأتي ألّابخرق التّصميم الإجتماعيّ ألمبنيّ على التّرهات، بدلامن ألّتبطيل والتّصفيق لإراقة الدّم بإسم القبيلة تارة وبسم الله تارة.