نحدث هذه الحلقة أحد الأعلام الصومالية الذين ذاع صيدهم في الداخل والخارج وترك أثراً كبيرً في الساحة الدينية والعلمية لاسيما القطر الجنوبي ، ذالكم فضيلة الشيخ العالم الولي عبد الرحمن الملقب (بشيخ صوفي) وتارة (بحاج صوفي) ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ ابن محمد ابن الشيخ محمد ابن الشيخ عبد الله ابن إمانك أبي بكر ابن على ابن حرنين ابن حاج يوسفابن الشيخ وأبالي ابن عمر ابن شيخ محمد ابن معلم عمر ابن الفقيه قاسم ابن الفقيه إسماعيل بن الفقيه حاج يوسف ابن الفقيه محمد ابن الفقيه عمر محيي الدين ابن الفقيه أحمد ابن الفقيه قاسم ابن أبي بكر القفال الشاشي المقدشى . وكما يبدو أن هذا النسب ينحدر من قبيلة زهرة بن كلاب، أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث يصل إلى نسب سيدنا عبد الرحمن بن عوف بن عبد العوف بن حارث بن زهرة بن كلاب بن مرة . وهذا يظهر لنا أن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله المشهور (بحاج صوفي) ينحدر من سلالة كريمة ذات دين وعلم ،كلهم من المشائخ والفقهاء كما يظهر من شجرة نسبه حتى يصل إلى أبي بكر القفال الشاشي _ أحد كبار المذهب الشافعي ، صاحب تصانيف عديدة ولاسيما فيما يختص بالفقه الشافعي – كما أن نسب الشيخ عبدالرحمن ينتهي إلى حيث يلتقي بسيدنا عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه، فيلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسبه الرفيع . والحقيقة أن قبيلة الشاشي التى ينتسب إليها صاحب الترجمة ، ما زالت تحتفظ بوثائق تدل على صحة هذا النسب وثبوته، بالإضافة إلى ملامحهم العربية الأصيلة التي مازالت باقية لديهم، رغم مكوثهم في أرض الصومال قروناً طويلة ، وذلك أنّهم اشتهروا بالحفاظ على هذه الملامح وابتعدوا عمّا يغير هذه الملامح والخصائص العرقية بقدر استطاعتهم . وقبيلة الشاشية وغيرها من القبائل التي يطلق عليها قبائل بنادرية أو يعتبر من المهاجرين إلى بلاد الصومال ، ولهم فضل كبير في تأسيس مدن مقدشو ومركة وبراوة . ورغم هذا التاريخ الطويل لم ينصهر هؤلاء مع المجتمع الصومالي انصهاراً قوياً رغم التزاوج بين الطرفين ، ولكن لم يقع هذا الامتزاج والإنسجام على شكل كبير وواضح . وإن كان هؤلاء تصوملوا في النواحي الثقافية واللغوية ، وزالت أغلب عروبة لسانهم . وعلى هذا فإن الشيخ ينحدر من هذه السلالة الطاهرة ذات الدين والحسب والنسب ، كما أنّ أمّه أيضاً من البيت الشاشي واسمها السيدة خديجة حلتر الفاضلة.
مولده ونشأته :
كان مولد الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله في مدينة مقدشو، حاضرة بلاد الصومال وعمودها الفقري في نواحي متعددة ، في سنة 1245هـ . هكذا ورد ونقل ، ولم نجد إلاّ سنة ولادته ، حيث لم نر من بين من ترجم لحاجي صوفي من ذكر يوم ولادته. وهذا شيء عاديّ ، إذ ولادة مولود لا تفيد شيئاً ، لا سيما أنه لا أحد يعرف إلى ماذا سيؤول أمر هذا المولود في الأيام الآتية ، لأنّ ذلك من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا علام الغيوب . ومن هنا فمن البديهي أنه لا أحد يهتمّ بذلك عند ولادة الطفل .
ونشأ الشيخ عبد الرحمن في بيت أبيه وأمه ، فربّاه والده أحسن تربية ، كما أدبه خير تأديب ، حتى نشأ تنشئة سليمة طيبة مصحوبة بالعلم والأخلاق الحسنة . وهذا ليس بغريب لمثل شيخ صوفي ، حيث أنّ البيت الشاشي الذي ينتسب صاحبنا إليه ، كان بيت علمٍ وكرمٍ ، وأخلاقٍ فاضلةٍ ، بالإضافة إلى أن آل الشاشي اشتهروا بكثرة فقهائهم وعلمائهم . ومن ناحية أخرى أنّ البيئة التي نشأ فيها حاج صوفي كانت في مقدشو لا سيما في حيّ حمروين وشنغاني المكتظ بأهل الفضل والإحسان والأخلاق الكريمة وأغلب سكان مقدشو في تلك الفترة كانوا من الأشراف ، الذين يفتخرون بانتسابهم إلى آل البيت .
في هذا الجوّ الهادي المحافظ العلمي نشأ الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله المشهور ” بحاج صوفي “حيث كانت سكناهم في ذلك المكان نفسه الذي ترعرع فيه الشيخ. ومن هنا فمن البديهي أن ينشأ بفضل هذه الأسرة العلمية الكريمة ، التي كانت – وما زالت حتى اليوم – ذات علم وأخلاق حميدة . والمعلوم عند علماء التربية أن البيت والبيئة يؤثران على الإنسان عموماً فضلاً عن الصبيان .
وفي فترة صباه تأثر صاحبنا بهذه البيئة العلمية الفاضلة ، و تلقى آداب الإسلام وأخلاق الرسول الحبيب ، محمد بن عبد الله – عليه الصلاة والسلام – منذ نعومة أظفاره وريحانة حياته ، وأعانه في ذلك جلّة من أفاضل العلماء وأقاربه الكرماء ، عندما تتلمذ على أيديهم ، وأخذ عنهم التربية الحسنة والأخلاق الحميدة ، ومن هؤلاء الأساتدة شيخ محمد نور دينلو الذي يعدّ أول معلم ومربيّ التقى به شيخ عبدالرحمن بعد بيت أبيه وأمه .
فبدأ في قراءة القرآن الكريم على هذا المعلم ، وأخذ عنه علوما ومعارف أخرى ، وبعد أن استوعب جلّّ ما كان عند معلمه وشيخه محمد نور دينلو ، التمس غيره ليكمل مسيرته العلمية ورحلته الخيرية ، بل ولينمي قدراته الثقافتة ، وما في جعبته من المعارف والعلم ، فاجتهد أن يلتحق بحلقات الشيخ العلاّمة أبي بكر المحضار الذي سقاه من فيض علمه ونورانية فقهه وفهمه، حتى صار الطالب عالماً ، حيث أحاط بجلّ ما سمعه من شيخه أبي بكر المحضار مما يتعلق بتعالم الدين الحنيف، عقيدة وعبادة.
واستفاد الشيخ عبد الرحمن من حلقة شيخ أبي بكر المحضار حتى استوى عوده وارتفعت هامته ، وذلك قبل أن يرحل الشيخ أبوبكر المحضار إلى مقره الجديد قرب قرية ورشيخ الساحلية .
ولا شكّ أنّ من تربى بين العلماء والحكماء ، ونشأ بين أحضان الفضلاء والكرماء ، سيكون مثلهم فضلاً وعلماً وكرماً ، كالشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الشاشي المقدشي ، بل ولا يستغرب أن تعلوا همّة ذلك الشخص ، وتسمو أخلاقه ، كما لا يعجب مثل هذا المرء أن يرتفع نبوغه ، ويصبح عالماً ناجحاً ، ورائداً مرموقاً ، يفوق أقرانه ، بفضل الله – سبحانه وتعالى – ثمّ بفضل تلك البيئة القاضلة وهذه الأسرة الشاشية الكريمة ، فضلاً عن أن شيوخ حاج صوفي ومجالسيه من أصحاب المنابر وكراسي العلم ، أحبوا المسجد وأهله ، وزهدوا في الذنيا وملذاتها ، بل وحبسوا أنفسهم بالمحراب وأماكن العبادة ، مثل الشيخ أبي بكر المحضار .
ومن هنا فمن البديهي أن يتأثر الشيخ عبد الرحمن بمثل هذه البيئة الصالحة ، وهذا المحيط المحروس ، وخاصةً شيخه أبوبكر المحضار، ومن قبله معلمه ومربيه الشيخ محمد نور دينلو.
وقد تأثر الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بشيخه أبي بكر المحضار في نواحي عديدة مثل الأخلاق والزهد وعدم الاستكانة إلى الدنيا وملذاتها ، حتى صار الشيخ عبد الرحمن زاهداً عن حبّ الذنيا وملذاتها ، حيث كان لا يعطيها اهتماماً كبيراً . ولما فشى زهد الشيخ ، وانتشر خبر عدم تفكر الشيخ في الدنيا وما فيها ،حتى لقبوه (بحاج صوفي) أو الشيخ صوفي.
والحقّ انّ حاج صوفي كان رائداً من رواد بلاد الصومال ، وأخرج جيلاً ساهم في نشر الثقافة والعلوم الإسلامية العربية ، من خلال حلقاته العلمية ، ودروسه المتنوعة ، حتى قصد إليه القاصدون من أهل العلم والورع من أصقاع مختلفة ، بحيث لا يستغرب إذا أشرنا إلى أن من قصد إليه كان من ضمنهم جهابذة العلم ، وقادة الطرق الصوفية ، كالشيخ أويس بن محمد القادري الصومالي – شيخ الطريقة القادرية في القطر الصومالي – ، ويؤكد ما ذكرنا بعض المراسلات المتبادلة بين الشيخين – الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله ، والشيخ أويس القادري.
آثاره العلمية : سبق أن ذكرنا أنّ الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله تتلمذ عليه نخبة فريدة أخذت راية العلم والمعرفة تطوف بها في أروقة العلم وزواياه ، روى عن شيخهم ما حملوه من مجالسه وحلقاته العلمية .
أما من ناحية الإنتاج العلمي والثقافي ، من وضع الكتب العلمية ، لا شك أن حاج صوفي يعتبر فارساً من فرساناً العلم في هذا الميدان ، ورائداً من روّاد الحركة الفكرية والثقافية في بلاد الصومال ، وذلك من خلال تتبّعنا لما تركه من إنجازات علمية وثقافية متنوعة ، سواء ً ما طبع من تراث الشيخ أو مما لم يزل مخطوطاً حتى الآن ، ولم ير النور . غير أننا نستطيع القول بأن الشيخ صوفي تميّز عن غيره من أهل العلم في هذا الحقل ببلاد الصومال ، حيث أنه الوحيد الذي وضع كتاباً يتناول علمي العروض والقافية ، حتى أطلق عليه البعض ” فراهيد العصر أو فراهيد بلاد الصومال “، حيث ألفّ كتاباً الموضوع سمّاه : “جوهرة السامية في علم العروض والقافية“ .
ومن آثار الشيخ العلمية المطبوعة ، الديوان شعر وضعه الشيخ وأكمله قبل وفاته ، وهذا ديوان قد حوى جميع أشعاره في مختلف المجالات ، كما أن هذا الديوان يسمى :” دليل العباد في سبيل الرشاد” . وهو عبارة عن مجموعة قصائد ونظم تشتمل على تقديسات الله تعالى ومعجزات رسوله الأعظم ،محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – وسيرته العطرة ، وعلى جانب كبير من علم التوحيد وعلم التصوف ، كما لا يخلو الديوان من مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبعض التوسلات . وشيخ صوفي أيضاً له قصائد أخرى غير موجودة بديوانه هذا . ومن هذه الكتب التي جمعت بعض قصائد الشيخ كتابٌ يسمّى 🙁أنيسة العاشقين في معجزات سيّد المرسلين) .
وفاته : توفي أبو عبد الله الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الشاشي المقدشي في يوم التاسع والعشرين من شهر صفر عام 1323هـ. بعد أن نشر العلم وشارك في رفع المستوى العلمي والثقافي للمنطقة ، وقام بتعمير الرفوف والمكتبات بكتبه التي ألفها . وبعد أن أدى الأمانة الكبرى . وأشار بعض من ترجم له إلى أن الشيخرحمه الله
كان كريماً عظيماً ، وفاضلاً نبيلاً ، ومفتياً جليلاً ، وشاعراً لبيباً .
الخلاصة :
وفيما مضى تحدثنا عن أهم روّاد بلاد الصومال عبر العصور ، وميادين ريادتهم ، والداسة حاولت أن تختار بعض عينات من هؤلاء ، مراعية الزمن والمكان ، وأن غصور هؤلاء الرواد شملت في العصور الماضية والمتأخرة ، لإبراز مدى الرّابط الثقافي والحضاري للعلماء والمثثقين ، وإن اختلفت أزمنتهم وتباعدت أمكنتهم .