دار بيني وبين أحد الفضلاء من طلبة العلم كلام ونقاش حول الدعوة وأحوالها في المجتمع الصومالي عامة والجالية الصومالية في المهجر في أوروبا وأمريكا الشمالية ودوّل جوار الصومال خاصة ، وبعد استعراض جلَّ المشاكل والعقبات التي تواجد مسيرة الدعوة ، تطرق زميلي بما أسماه الحملة القذرة التي يمارسها بعد طلبة العلم تجاه إخوانهم وزملائهم في هذا الميدان ، حيث يمارسون تشويها ممنهجا ضدَّ كل من يظنون أنه ينافسهم في مكانتهم العلمية أو يعتقدون بأن له تأثير في المجتمع أو قد يحظي ببعض القبول والترحاب بين الناس ، وأشار بأن هذه الإساءة وهذا التشويه لا يمارسه شخص واحد فقط بل يوظف في سبيل نشره وإذاعته بين الناس فئام من الأغيار والدهماء الدين يدينون على مرشدهم بالولاء الكامل ، ولا يسألون البينة والدليل عما يقوله ويفتريه من الأكاذيب .
وقد ذكر بعض الأحداث التي أعقبت وأورثت جروحا عميقة في نفوس بعض طلبة العلم والدعاة ، وجعلهم ينزوون ويعتزلون عن الساحة أو يقللون الظهور ، لأن الإشاعات المغرضة وُضِعت أمامهم أو صنفوا بأنهم من المعارضين للعمل الدعوي المنظم ما داموا لا ينتظمون في صفوف الحركات ، وبذلا من ذلك أُفسح المجال أمام كل من أظهر الموافقة في كل شيء .
قلت له هذا الأمر ليس وليدة اليوم ، بل حفل التاريخ الإسلامي الغابر أنواعا من الحسد والتنافس المذموم بين العلماء وطلبة العلم ،
ويسمر الحسد ما دامت الدنيا ، والناس لا يحسدون إلا أهل الفضل والمكانة الرفيعة ، كما قال الشاعر :
وشكوت من ظلم الوشاة ولم أجد ذا سؤدد إلا أصيب بحُسَّدِ
لا زلت يا سبط الكرام محسَّداً والتافه المسكين غير محسدِ .
والحسد يتولد من أجل حب الدنيا ونسيان الأخرة قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله : ( تأملت التحاسد بين العلماء ، فرأيت منشأه من حب الدنيا ، فإن علماء الآخرة يتوادون ولا يتحاسدون ….. والأمر الفارق بين الفئتين : أن علماء الدنيا ينظرون إلى الرياسة فيها ، و يحبون كثرة الجمع و الثناء . و علماء الآخرة ، بمعزل من إيثار ذلك ، و قد كانوا يتخوفونه ، و يرحمون من بلي به ) .
وقد ذكر ابن عبد البر بسنده عن عبد العزيز بن أبي حازم قال:
سمعت أبي يقول: العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة ، وإذا لقي من هو مثله ذاكره ، وإذا لقي من هو دونه لم يَزْهُ عليه ، حتى كان هذا الزمان فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه فهلك الناس ) .
قلت : الإمام عبد العزيز بن أبي حازم أفقه علماء المدينة بعد الإمام مالك كما قال الإمام أحمد ، وأبوه عالم ، ويشكوا من تغير أخلاق طلبة العلم في زمانه ، فكيف يكون شأن هذا الزمان الذي مزجت الأخلاق وانتهكت العهود ، ولا يخلو الحسد في زمن من الأزمنة ، ولا ينجو منه إلا القليل ، وكما قيل : ما خلا جسد من حسد، ولكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه .
وقد أوردت كتب التراجم والسير قصصا كثيرة حول هذا الموضوع ، وبعضها حملت عبارات قاسية وكلمات نابية لا يتصور صدورها من جاهل فضلا عن عالم ، ولكن المحققين من أهل العلم والديانة تجاوزوا عنها واعتبروها من باب تنافس الأقران وتحاسد الأضداد ، فاطرحوها جملة وتفصيلا، من غير أن تنال من حرمة العلماء المتكلم فيهم .
قال الإمام الذهبي : ( كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبا به ، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ، ما ينجو منه إلا من عصم الله ، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين ، ولو شئت لسردت من ذاك كراريس . اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم ) .
ويقول الإمام السبكي في طبقات الشافعية في ترجمة الحارث المحاسبي : ( ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين ، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض ، إلا إذا ببرهان واضح ، ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك وإلا فأضرب صفحا عما جرى بينهم ، فإنك لم تخلق لهذا ، فاشتغل بما يعنيك ودع مالا يعنيك ولا يزال طالب العلم نبيلا حتى يخوض فيما جرى بين السلف الماضين ، ويقضى لبعضهم على بعض ) .
قال عبد الله بن العباس رضي الله عنه ( استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده هم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها ) .
وقال الإمام ابن عبد البر : ( فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الأثبات في بعض فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة رضوان الله عليهم بعضهم في بعض ، فإن فعل ذلك ضل ضلالا بعيدا وخسر خسرانا وكذلك إن قَبِل في سعيد بن المسيب قول عكرمة ، وفي الشعبي وأهل الحجاز وأهل مكة وأهل الكوفة وأهل الشام على الجملة ، وفي مالك والشافعي وسائر من ذكرناه في هذا الباب ما ذكرنا عن بعضهم في بعض ، فإن لم يفعل ولن يفعل إن هداه الله وألهمه رشده فليقف عند ما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صحت عدالته ، وعُلمت بالعلم عنايته ، وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتصاون ، وكان خيره غالبا وشره أقل عمله ، فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به ، وهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله .ا.هـ.
فمن ولج هذا الباب من غير خوف من الله تعالى وورع وديانة ، فقد خسر دنياه وأخرته ، ولذا يجب على طلبة العلم والدعاة إلى الله تعالى أن يكونوا على منأى من هذا العمل الشنيع ، وأن لا يسمحوا النفس الأمارة بالسوء والهوى والشيطان باقتحام هذا المستنقع الأسن ، ومن تلبس بها فعليه العودة إلى الله تعالى والتوبة منه .