خرجت من غرفة الفندق في شارع الشواربي بوسط البلد، متجها إلى مسجد السيدة زينب.
المشي في الطقس البارد عندي متعة قديمة لا تقاوم، لذلك اخترت أن أسلك شارع شريف باشا ومررت بعدة تقاطعات لشوارع مشهورة مثل قصر النيل ورشدي وصبري أبو العلم والبستان. ثم وصلت إلى شارع نوبار ومنه إلى ميدان لاظوغلي قبل أن أنعطف يسارا نحو ميدان السيدة.
على جانبي الطريق كانت القاهرة تمارس طقوسها اليومية بلا تكلف. مقاه شعبية تفتح أبوابها باكرا، محلات عصائر، ورش أعمال، بقالات، وناس منشغلون في شؤونهم، لكنهم لا يبخلون بابتسامة أو نكتة عابرة. ضحكة من هنا، ونداء مألوف يشق الضجيج.
المعلم لصبيه: «يا واد يا بيومي… أوعك تتأخر علي!»
تفاصيل صغيرة، لكنها كافية لتذكيرك بأن طيبة المصريين ليست شعارا، بل ممارسة يومية.
عند وصولي إلى مسجد السيدة دخلت وصليت ركعتين تحية للمسجد، ثم توجهت إلى المقام حيث ضريح أم هاشم قرأت الفاتحة والدعاء المأثور، وفي تلك اللحظة حضرت إلى ذهني رائعة قنديل أم هاشم للراحل العظيم يحيى حقي، تلك الرواية التي عرّفتني بهذا المكان وأدخلته وجداني قبل أن تطأه قدماي زيارة. ثم دعوت الله لأهلي وأحبابي بالصحة والستر، متوسلا بجاه السيدة زينب بنت عليّ حفيدة النبي الأعظم، عليه وآله الأطهار الصلاة والسلام
كان المشهد مؤثرا في بساطته. رجال ونساء، واقفون وجالسون حول الضريح، يرفعون أكفهم إلى السماء، مبتهلين إلى الله، ومتوسلين بجاه الحبيب المصطفى وآله الطيبين الطاهرين. المشهد ليس غريبا على المصريين، فمحبة آل بيت رسول الله متجذرة في وجدانهم، وحاضرة في ثقافتهم الشعبية والدينية منذ قرون.
بعد الخروج من المسجد، عرجت على مطعم الجحش الشهير في حي السيدة. استقبلني النادل بابتسامة وسؤال مصري خالص:
«هتطلب إيه يا باشا؟»
طلبت فولا وبيضا مسلوقا، وقرصين من الطعمية، وسلطة، وطحينة. لم يتجاوز ثمنها دولارا ونصف دولار. غلب الملح على الطعمية أكثر مما أحتمل، فاكتفيت بقضمة واحدة وتركتها جانبا. لحظة تدرك فيها أن بساطة العيش هنا ليست فقرا، بل مهارة حياة. قلتها ضاحكا: يا بختكم يا مصريين، رغيف العيش عندكم يكاد يكون ببلاش.
عدت قافلا إلى وسط البلد، وعند مروري بشارع هدى شعراوي، انعطفت يمينا وجلست في قهوة البستان، ذلك المقهى العتيق الذي طالما كان ملتقى الأدباء والكتاب والمفكرين. طلبت كوبا من اليانسون وجلست أستمع إلى أحاديث الطاولات المجاورة. كان النقاش يدور حول الماضي وجماله، والحاضر وسرعته، وعصر المكنة والقلم، والتحولات التي جعلت الإنسان يسأل اليوم الذكاء الاصطناعي فتوى دينية، فيجيبه خلال ثوان بما قالته المذاهب الأربعة.
هكذا هي القاهرة: مدينة مزدحمة في النهار، صاخبة في الليل، لكنها، رغم كل شيء، مدينة أمان. تمشي في أزقتها وحواريها الضيقة مطمئنا على نفسك ومحفظتك. دفؤها الإنساني لا يزول مهما تغيرت الوجوه وتعاقبت الأزمنة.
حمى الله مصر، وحفظ أهلها الطيبين.
إلى اللقاء





