الإيمان اللساني

ألتقي بين الحين والآخر عددا من الشباب الذين يعلنون صراحة أنهم لا يؤمنون بوجود الخالق. نجلس في مقهاي الأثير «بار إيطاليا»، نتحدث عن الأدب، والفكر ، وشؤون الحياة، ونتبادل الأخبار، ثم يفاجئني أحدهم عند انصرافه قائلا: إن شاء الله نلتقي غدا، أو يعلّق على مرض صديق: الله يشفيه، أو يسترجع خبرا حزينا، قائلا: الله يرحمه.

أسمع هذه العبارات منهم فأبتسم في داخلي. لا، لأن فيها تناقضا، بل لأنها تكشف عن أثر لغوي قديم تشكل في أعماقهم قبل أن تتبدل قناعاتهم.

فاللغة لا تعاد صياغتها بقرار فكري، ولا تستجيب للعقل كما تستجيب له الأفكار. والإنسان يكتسب لغته الأولى وهو طفل لا يعرف معنى الإيمان ، ولا معنى الإعراض عنه. الكلمات التي يسمعها في البيت، والمدرسة ، والمحيط، تمس روحه قبل وعيه، وتبقى فيه مثل نقش يصعب محوه. وحين تقول له أمه: الله يحفظك فهي لا تقدم له عقيدة، بل تمنحه شعورا بالأمان، وهذا الشعور يترسخ في داخله أكثر من أي فكرة قد يتخلى عنها لاحقا.

ولهذا يستمر هؤلاء الشباب في استعمال تلك العبارات حتى بعد ابتعادهم عن العقائد؛ لأن هذه الكلمات لا تنتمي إلى ما يعتنقونه اليوم، بل إلى زمن تشكلهم الأول. وقد تحدث علماء الاجتماع عن “الإلحاد الثقافي”، وهو انفصال بين ما يعتقده الفرد وما تنطق به لغته إذ يتكلم الإنسان بلغة البيئة التي نشأ فيها، لا بلغة أفكاره اللاحقة. وتظل اللغة مشدودة إلى الذاكرة الجماعية حتى لو انتقل صاحبها إلى موقف فكري مغاير تماما.

وعندما يقول غير المؤمن: الله يرحمه فهو لا يقصد المعنى الديني، بل يلجأ إلى العبارة الأقدر على ملامسة حزن الآخر. ففي مقام العزاء تبحث الكلمات عن أثرها الوجداني، لا عن دلالتها العقائدية. واللغة في لحظات الألم لا تختبر إيمان القائل، بل حاجة المستمع. ولهذا تبدو تلك العبارات أقرب إلى الإنسان من أي بديل جاف يخلو من تلك اللمسة التي اعتادها المجتمع.

أما المؤمن الذي يصغي إليهم بلا توتر، فيدرك أن الإنسانية لا تقاس بمواقف العقيدة، وأن التواصل بين البشر يحتاج إلى مساحة أوسع من المناقشات الفكرية. فالمؤمن لا يخسر شيئا حين يجالس الملحد، وغير المؤمن لا يفقد استقلاله الفكري حين يستخدم لغة نشأ عليها. وفي هذه المساحة المشتركة يتبين أن العلاقات الإنسانية لا تقوم على التطابق، بل على القدرة على تقبل الآخر.

وهكذا، فهذه العبارات ليست بقايا إيمان، ولا مجرد مجاملات، بل طبقة لغوية وثقافية سبقت مواقف الفكر واستقرت في الذاكرة الجمعية، ورافقت الفرد حتى حين أعاد تشكيل معتقده. فهي أثر من زمن مضى بقي في اللسان وإن غادر العقل، ودليل على أن الإنسان يحمل في داخله طبقات كثيرة يختار بعضها عن وعي، بينما يتشكل بعضها الآخر بفعل البيئة والزمن.

أقول قولي هذا، وأحمد الله تعالى على نعمة الفهم: أن الإنسان مزيج من عقل ولسان ووجدان؛ عقل يصوغ قناعته، ولسان يحمل تراثه، وقلب يحتفظ بما يمنحه الطمأنينة. وفي هذا التكوين نعيش على حقيقتنا. لا نسخة خالصة من عقيدتنا، ولا انعكاسا كاملا للبيئة، بل كائنا يجمع الأثرين معا، ويتحرك بينهما في نسيج لا تختصره كلمة، ولا يحدّه موقف واحد.

إلى اللقاء

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى