برحيل جورجيو أرماني يطوي العالم صفحة من أنصع صفحات الذوق الرفيع. لم يكن مجرد مصمم يبتكر قصات أو يطلق عطرا يحمل اسمه، بل كان ظاهرة أعادت تعريف معنى الترف الأصيل، وأثبت أن الرقي حين يُصاغ بمهارة يصبح عنوانا للجاذبية الخالدة. جعل من الأناقة الإيطالية نهجا للحياة، فأدرك الناس أن الخطوط الهادئة أبلغ من الزخارف، وأن الألوان الصامتة أبقى من الصاخبة، وأن الصفاء المتحرر من المبالغة ظل ذروة السحر والتميز.
أرماني، الذي عاش دون زواج ولم يترك وريثا، خلّف ما هو أبقى من الأبناء: إمبراطورية متينة تعد من أنجح علامات الأزياء في العالم. جمع بين عقلية المهندس ورهافة الفنان، فشيد بنيانا صلبا يقي مجموعته من أطماع الكبار وتقلبات السوق. وزّع رأس المال بحكمة، وأحاط عمليات البيع والشراء بقيود صارمة، وجعل إدراج الشركة في البورصة رهنا بقرار جماعي لا بمجازفة فردية. كان يؤمن أن الهوية هي الثروة الوحيدة التي لا تُباع ولا تُشترى، وأن العلامة إذا فقدت روحها خبت قيمتها مهما علت الأرقام.
وحين يتأمل المرء الأسماء المرشحة لوراثة الكيان، تبدو حكمته جلية: إذ أودع ثقته في ليو دل أوركو، ذراعه الأقرب الذي أمضى عقودا في خدمة المجموعة حتى غدا جزءا من عائلتها الممتدة. وهكذا لم يترك ثروة فحسب، بل خلف شبكة ولاءات تحرس الإرث بوفائها، كما تحميه القوانين بصرامتها.
غير أن عطاءه الثقافي هو الأعمق أثرا. ففي زمن طغت فيه المبالغة، أطلّ ببدلته الرمادية ليهمس بأن القوة تسكن التواضع، وأن النجم يزداد مهابة كلما ابتعد عن الصخب. لم يكن يكسو السينما بثيابها فحسب، بل كان يرسم على سجادة هوليوود الحمراء ملامح صورتها الباقية. وما زالت هوليوود مدينة له بوجوه نجومها، كما ظلّ رجال الدولة والأعمال يقصدون علامته ليبعثوا من خلالها رسالة القوة والرقي.
ولست أنسى أن عطوره كانت رفيقتي منذ زمن بعيد. كان الأصدقاء المقربون يهدون إليّ زجاجاتها الفاخرة، وفي كل مرة أصادفها أشعر بأنها تحمل بصمة صاحبها في نقاء الشكل وعمق الرائحة. وفي المرات القليلة التي لم أجدها في متاجر السفر فري ديوتي، كنت أختار بديلا راقيا هو عطر غوتشي، لكن حضور أرماني ظلّ الأقرب إلى ذاكرتي وذوقي.
غاب أرماني جسدا، لكن ما شيده باق. ترك مدرسة في الأناقة، ومنهجا في الإدارة، وعلامة أصبحت جزءا من الهوية الإيطالية. غير أن قيمته الحقيقية تتجاوز حدود القماش والعطر؛ إذ علّم العالم أن الصمت لغة، وأن التواضع قوة، وأن البساطة إذا بلغت ذروتها تحولت إلى فن خالد.