المثلث الحدودي المشترك (مفترق طرق لإسترداد الدولة )

هناك موروث إفريقي قديم يعود لقبيلة ” Kabye” الجبلية في توغو يقول “سيحرقُ كومة القش من كان جاداً بالبحث عن الإبرة”.

تصريح وزير الخارجية الأمريكي “ماركو روبيو” مؤخراً بأن السودان هو الوجهة الأمريكية القادمة لتحقيق السلام بعد إبرام الإتفاق بين رواندا والكونغو الديموقراطية لم يكن تصريحاً عابراً بل هو إيذاناً أمريكياً بقرب إستكمال جزء من الحلقات المفرغة التي خُيّل لبعض الأطراف الموهومة أنها أهلاً لملئها.

تسعى واشنطن منذ عام 2011 إلى فرض واقع جديد يتوافق مع رؤيتها الإستراتيجية لإفريقيا المستقبل، واقع يتجاوز مداه عقولاً لم تتعرف على معنى الدولة، ولا تملك القدرة ناهيك عن الإقدام لإختيار المعنى الذي يمثلها ويؤهلها لمناقشة الفرق بين وطن تنتمي إليه وبين دولة وجد نفسه فيها، وكما تختلف رؤية القيادات الإفريقية للدور الأمريكي في القارة الإفريقية، تختلف الرؤية الأمريكية في النهج المراد تطبيقه على الدول الممثلة لتلك القيادات.

جاء لقاء القيادة المصرية برئيس مجلس السيادة  السوداني الفريق “عبد الفتاح البرهان” لتبيان رؤية القاهرة للتطورات المتلاحقة التي يشهدها المثلث الحدودي المشترك مع السودان وليبيا، وإستيضاحاً لدور خليفة حفتر الساعي إلى توسيع حضوره في الإقليم مستخدماً في ذلك كافة الأدوات المتاحة لتمكينه من ذلك، وأياً كان الدور الذي ستلعبه القاهرة بين الخرطوم وخليفة حفتر “تهدئة، تقريب وجهات نظر، إلتزام الحياد” فهو سيكون بمثابة جرس إنذار للقيادة السودانية تحتاج الخرطوم إلى سماعه مراراً لإعادة ترتيب أوراقها وقطع الطريق لمن أراد إعادتها للمربع الأول، ولا تحتاج الخرطوم لتذكيرها بالأعراف المخابراتية التي طالما طبقتها وطُبقت عليها، ففي عرف المخابرات بأن الأداة التي تستخدمها الأنظمة لتنفيذ أجندتها غالباً ما تتحول إلى أداة متعددة الإستخدام، بمعنى أن تلك الأداة قد تنفذ أجندة لعدة أنظمة في وقت واحد، وإن تضادت الإرادات فهناك لابد من ثغرة، وهذا ما ينطبق اليوم على الأدوات المتواجدة في المثلث الحدودي المشترك “السوداني-المصري-الليبي”، والإدارة الأمريكية لن تحتاج لكثير جهد لرسم مستقبل ذلك المثلث الحدودي خاصة من الناحية الليبية، فالمتحكم بذلك الجزء من الحدود هو جزء من تكوينها الأمني تم إختياره وتدريبه لعقود طوال ولا يملك من أمره شي إلا التنفيذ، وبالتالي وجب على الخرطوم دراسة أدواتها أو خلقها إستعداداً للمناورة القادمة، فالمثلث الحدودي “السوداني-المصري- الليبي” أمام مفترق طرق فإما أن يشهد نهاية لإسطورة المليشيات المتعددة الجنسيات، أجنبية الرعاية، المقوضة لسيادة الدول الوطنية في إفريقيا إلى غير رجعة، وإما أن يكون نقطة إنطلاق تجوب القارة الإفريقية غرباً وشرقاً شمالاً وجنوباً لتقضي على ما تبقى من أساس الدولة ومؤسساتها الشرعية مكرسة بذلك نموذج “دولة خالية الوفاض”.

تدرك الخرطوم مصالح القاهرة في الشرق الليبي تماماً كإدراك القاهرة لخطر مليشيا الدعم السريع في حال إستمراره في المشهد السياسي السوداني، وأياً كانت الرؤية المصرية وتوجهاتها في المرحلة القادمة فلابد من الإشارة إلى مجموعة من الحقائق باتت اليوم بمثابة ميزان تتحدد عليه الرؤية الدولية والإقليمية للقيادة السودانية ولابد من تعزيزها وتطوير ألياتها إستعداداً لكل جديد:

  • تطوير أليات التنسيق الأمني والإستخباراتي، والإستحداث العملياتي “التغيرات التكتيكية، التنظيمية” لإستباق المخاطر المحتملة من كافة الأطراف “المتضادة والمتحالفة”. ( هذا الإجراء سيساهم في إحباط المخاطر أو تقليل أثرها على سير العمليات في الميدان).
  • سيطرة مليشيا الدعم السريع على الحدود السودانية مع ليبيا ومصر لن يستمر طويلاً، فهو مرتبط بتقدم العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش السوداني في غرب البلاد، ولا يمكن أن تستقيم الأمور للمليشيا في كافة إقليم غرب البلاد لمدة طويلة في ظل إخفاقها منذ إبريل 2023 حتى اليوم على السيطرة على الفاشر وهذا ما يؤرق الكادر الأمني للمليشيا قبل قادته مما يضعه في حالة من الإرتباك المعنوي والشك في مستوى الكفاءة العملياتية للمليشيا، أما مسألة عتادها العسكري الذي قد ينظر إليه بأنه سيعوضها، فهو يتدفق عليها منذ اليوم الأول للتمرد، وعلى تنوعه وحداثته وكثرته ولكنه لم يجدي نفعاً، ولم تستطع المليشيا تعويض خسارتها منذ طردها من العاصمة الخرطوم وضواحيها وكافة المدن الإستراتيجية وإرجاعها إلى حواضنها في أقضى الغرب السوداني، وبالتالي لابد من العمل على تكريس كافة الأسباب المساعدة لإرباك الحسابات الأمنية والإستخباراتية لمليشيا الدعم السريع، فترى المليشيا بأن إستمرار بقاءها مستقبلاً مرتبط ببسط سيطرتها على الفاشر، فالفاشر في الحسابات الأمنية والإستخباراتية للمليشيا هي الأمل الأخير لإسترداد ثقة المكون العقدي الذي تنتمي إليه، وهي البوابة الوحيدة التي قد تقنع الأطراف الإقليمية والدولية بالإعتراف ولو مستقبلاً بحكومتهم المزعومة، وهو طوق النجاة الحقيقي لإعادة تنظيم الهيكل الداخلي للمليشيا، وترتيب أوراقها للعب دور سياسي جديد في السودان وجوارها الإقليمي. ( سقوط الضعين في يد القوات المسلحة السودانية سيخل بالتوازنات الأمنية والسياسية لمليشيا الدعم السريع، وسينعكس وبشكل فوري على المكون الإجتماعي لكافة مدن وولايات إقليم دارفور، الأمر يحتاج إلى إدارة إستراتيجية “خاصة” تعمل على تغيير الكثير من الوقائع على الأرض).
  • قياس أراء القيادات السياسية على مستوى القارة الإفريقية في الأزمة السودانية وأثر النخب الفكرية في تلك الدول على خط سير القرار السياسي في بلادهم، تمهيداً لتشكيل جبهة إقليمية داعمة لسيادة الدولة الوطنية في إفريقيا قاطبة. 
  • بروز تيار شعبي سوداني واسع “مستقل” ينتمي للثورة السودانية ويطالب بإعادة مسارها ويرفض التدخل الخارجي، ويرى ذات المكون بأن هناك مليشيا تمردت على الدولة السودانية، ورفعت السلاح في وجه المؤسسة العسكرية، وأستقطبت عناصر أجنبية لإسقاط الدولة الوطنية، فبات من حق تلك المؤسسة أن تدافع عن نفسها وعن سيادة الوطن وسلامة أراضيه وهذا حق مشروع، وهذا التيار وإن كان لا يتحدث عن أيديولوجية المؤسسة العسكرية السودانية، ولكن يتحدث عن هوية النظام السياسي الذي يسعى إليه، فهذا المكون يرى بأن كل دولة لها حق إختيار النظام التي ترتضيه لتؤسس عليه تركيبة الدولة التي تريدها، ولا يحق لأي طرف خارجي الحديث عن ذلك. (وهذا التيار الذي بات يخاطب المجتمع الدولي متصدراً معظم المنابر السياسية والإعلامية رغم إختلافه مع المؤسسة العسكرية في العديد من النقاط إلا إنه يقر ويدعم دور الجيش في الحفاظ على سلامة وسيادة الوطن ووحدة أراضيه، وفي ذات الوقت يعترف بضعف الأحزاب السياسية السودانية، وإفتقارها لقيادة حقيقية متمكنة تؤهلها لقيادة المرحلة القادمة.، وهذا التيارهو ما يركز عليه الإعلام الغربي بإعتباره وجهة مستقبلية لسودان جديد يمكن البناء عليه)
  • قناعة مليشيا الدعم السريع بأن الأطراف الدولية الفاعلة في المشهد السوداني وعلى رأسها “واشنطن، الإتحاد الأوروبي” وإن كانت ترى في المليشيا فصيل قادر على حماية جزء من مصالحها وتنفيذ أجندتها، إلا إنها قطعاً لا ترى فيها ركيزة تقوم على أكتافها دولة بحجم السودان، وإن تعاضدت معها بعض الأجسام السياسية المقبولة “أمريكياً”، ولا ترى في المكون العسكري للمليشيا نواة لجيش وطني نظامي قد يحظى ذات يوم بالجلوس وجهاً لوجه مع ممثلين لجيوش دول أخرى، ناهيك عن أبجديات وعُرف الشرف العسكري الذي لا يلتقي ولا يمكن له أن يلتقي مع التركيبة البنيوية والنفسية لكافة المليشيات الخارجة عن القانون والمتمردة على الدولة الوطنية.

أما ما يتعلق بالملف الليبي وأثر تطوراته على الدولة السودانية فلابد من إلقاء نظرة سريعة على الحراك المصري الأخير في ذلك، فلقد جاء الحراك المصري الأخير للقاء “خليفة حفتر” رداً على مساعي أنقرة الأخيرة للتقارب مع بنغازي والتي يبدو أنها ستقود إلى إتفاق بين الطرفين “التركي &الليبي” حول الحدود البحرية في البحر المتوسط، فالقيادة التركية وإن كان موقفها الداعم لحكومة الوحدة الوطنية الليبية “المعترف بها دولياً” لم يتغير إلا إنها وجدت بإن التوازن الإستراتيجي مع الشرق الليبي قد يحقق لها مكاسب معززة لحضورها المستقبلي في القارة الإفريقية، وبرزت تلك الرؤية التركية بعد أحداث طرابلس الأخيرة، حيث تضاعف قلق أنقرة بعدما أدركت حرص رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية “عبد الحميد الدبيبة” على تقوية القوات المتحالفة معه “قوة مصراته المشتركة واللواءين “444\111” على حساب تحجيم “قوة الردع” أو ما يطلق عليها “الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة”، وهذا ما يفسر زيارة رئيس الإستخبارات التركية “إبراهيم كالين” إلى طرابلس ولقاءه بقائد اللواء 444 “محمود حمزة” مدير المخابرات العسكرية الليبية، و”عبد السلام الزعبي” قائد اللواء 111 لمنع أي هجوم على قوة الردع،وذلك  لسيطرة تلك القوة على المنطقة التي تضم السفارة التركية، ومطار معيتيقة الذي يستخدمه الأتراك.

هذه التطورات المتسارعة تشير أن هناك ثلاثة سيناريوهات ينتظرها الإقليم المجاور للدولة الليبية ولابد من الإستعداد لها:

السيناريو الأول، إعادة تحالف مايو 2022، في ظل التطورات المتلاحقة التي تشهدها الساحة الليبية لا يستبعد سقوط حكومة الوحدة الوطنية الليبية وظهور قيادات في طرابلس تدين بالولاء لخليفة حفتر، وذلك لأن قوة الردع بقيادة “عبد الرؤوف كاره” بعد أحداث طرابلس الأخيرة أقدمت على التحالف مع “مصطفى قدور” قائد مليشيا النواصي، ومكن جماعاته المسلحة من الإستقرار في طرابلس (وسبق ذلك تحالف “عبد الرؤوف” مع “هيثم التاجوري” قائد كتيبة ثوار طرابلس بدعم من خليفة حفتر، وتعاون هذا الثلاثي وخاضوا معارك في مايو 2022 وشكلو تحالفاً للسيطرة على حكومة الوحدة الوطنية الليبية إلا إن محاولتهم باءت بالفشل وتصدى لها في ذلك الوقت “عبد الغني الككلي” الذي توفي مؤخراً).

السيناريو الثاني، بروز بنغازي كمنطقة أكثر إستقراراً على حساب طرابلس، وذلك في ظل تنامي التنافس الدولي والإقليمي في بنغازي، وحرص “أل حفتر” على التعاون المتوازن مع كافة الأطراف، وهذا ما أدركته موسكو باكراً وهو ذاته ما يفسر قبولها لرؤية نائب وزير دفاعها “يونس يفكوروف” الذي نجح في هندسة العلاقات مع بنغازي بما يتوافق مع رؤيتها المستقبلية دون الإخلال بمستوى العلاقات مع واشنطن، كما أن أنقرة تسعى إلى تعزيز نفوذها في شرق ليبيا، ومهمتة بحقول الغاز في شرق المتوسط، ورغم علاقة أنقرة مع حكومة الوحدة الوطنية بقيادة الدبيبة إلا إنها تسعى لتعزيز حضورها في الشرق الليبي، وتسعى لإستكمال بنود إتفاقية التعاون العسكري والتي تنص على عقد إتفاقيات لتدريب مقاتلي الجيش الوطني الليبي وشراء معدات عسكرية، إلا أن أنقرة تؤكد أن تقاربها مع بنغازي لا يعيق دعمها لإستقرار حكومة الوحدة الوطنية، فتركيا لديها قواعد جوية في غرب ليبيا “الوطية ومصراته”، كما تسعى إدارة الرئيس التركي “أوردغان” إلى أن تكون وسيط لتعزيز عملية إعادة توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية الليبية، وهذا ما يفسر إعتمادها في تفاوضها مع بنغازي على إتفاقية التعاون العسكري التي وقعتها أنقرة مع حكومة “عبد الحميد الدبيبة” المعترف بها “دولياً”.

السيناريو الثالث، إستمرار تأزم المشهد الداخلي في طرابلس مما يمهد لعودة أحداث مايو 2025، في ضوء إستعداد قوة مصراته المشتركة والكتائب الموالية للرئيس “عبد الحميد الدبيبة” للهجوم على “قوة الردع”، والإصرار للحصول على طائرات وعتاد عسكري من وزارة الدفاع الأذربيجانية (فوفقاً لمصادر أمنية فرنسية أن حكومة الوحدة الوطنية طلبت من باكو طائرات مسيرة مزودة بنظام إتصال “Satcom”، ومحطة قيادة قادرة على إدارة رحلات متزامنة لطائرتين، وعشرين صاروخ جو أرض. (وفي دلالة على عمق الأزمة الداخلية في “طرابلس” إشترطت الأخيرة على “باكو” عدم تسليم المعدات المطلوبة في مطار طرابلس لوقوعه تحت سيطرة قوة الردع، ولكن يتم التسليم في مطار مصراته الدولي الواقع تحت سيطرة قوة العمليات المشتركة التابعة لحكومة الوحدة”)، وهذا السيناريو لو تحقق سيساهم في خلق فوضى عارمة تفوق قدرة الدولة الليبية على تحملها وستنعكس أثارها على كافة دول الجوار الإقليمي خاصة تلك التي توصف “بالغير مستقرة”.

ستشهد القارة الإفريقية على المدى القريب تغييرات مفصلية، ستختفي على أثرها تدريجياً الأدوار المنوطة لبعض الشخصيات الذين تم إخطارهم مؤخراً بمكان إقامتهم المستقبلي، وسنشهد جميعاً حصاداً سياسياً وفيراً نتعلم منه أن ميزان القوى لا يرتكز دائماً على كثرة العتاد العسكري، وأن هناك فرقاً شاسعاً بين علم العقيدة العسكرية وقواعد الميدان.

د. أمينة العريمي

باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
زر الذهاب إلى الأعلى