في صيف 2005، وصلتني رواية “شيفرة دا فينتشي” من صديقي علي حلني، الذي طالما غمرتني هداياه القيمة. وكانت تلك الرواية بالذات واحدة من الهدايا التي تركت عندي أثرا عميقا، لا بما حملته من أوراق، بل بما أيقظته من أسئلة.
رواية دان براون، التي تقع في نحو خمسمئة صفحة، ليست مشوّقة فحسب أو مليئة بالألغاز، بل أعادت، وهذا هو الأهم، طرح سؤال قديم: هل نقرأ لنعرف، أم لنشك؟
حين ظهرت شيفرة دا فينتشي، لم تأت كحدث أدبي عادي، بل أقرب إلى يقظة تأخرت. نافذة منسية انفتحت فجأة على أسئلة ظنناها مطوية. رواية بوليسية تدور حول جريمة قتل في متحف اللوفر، لكنها لا تلبث أن تمضي إلى ما هو أعمق. لم تكن مواجهة مع قاتل، بل مساءلة لتاريخ طويل من المسلمات. هنا، لا تُحل جريمة، بل تُعاد صياغة الحكاية الكبرى.
في صلب الرواية، تقف لوحة “العشاء الأخير” وعلى يمين المسيح، شخصية لطالما قيل إنها يوحنا، لكن الرواية تقترح أنها امرأة: مريم المجدلية. ليست هذه مفاجأة شكلية، بل تشكيكا جريئا في السردية الكاملة. تصبح اللوحة نصا بصريا غامضا، لا يُقرأ فقط، بل يُعاد تأويله. وهذا هو مفتاح الرواية: ما يُقال مجرد ستار، أما الحقيقة ففيما يُخفى.
ليوناردو دا فينتشي، في هذه الرواية، ليس الفنان المكرّس، بل الصوفي الخفي. أعزب، غريب الأطوار، يترك وراءه دفاتر غامضة لا تُفسر بسهولة، وإشارات لا تهدأ. كأن كل ما فعله لم يكن رسما ولا اختراعا بل نزوعا إلى التعبير عما لا تسعه الكلمات، إلا بلغة من الظلال والضوء.
دان براون لم يسع إلى فرض قناعة. هو فقط مرّ بجانب الأسطورة، وأشار إليها بصمت. الرواية لا تقدّم يقينا، بل تمنح القارئ ممرا بين الشك والاحتمال. ولهذا بالضبط، أثارت كل ذلك الجدل. من دخلها بحثا عن الإثارة، خرج مشوّشا. ومن دخلها بعقل حر، غادرها محاطا بدوامات الأسئلة، واحتمالات لا تستقر.
ومن خلف هذا كله، يُطرح سؤال أكبر، لا عن الدين أو الفن فقط، بل عن السلطة. من يملك حق الكلام؟ من يمنح القداسة؟ من يرسم التاريخ؟ ومن يجرؤ على كسره؟
ربما لم يكن دا فينتشي رساما فقط، بل ناسكا معاصرا، وضع رموزه في اللوحات كما تُخفى الأسرار في تعرجات المخطوطات. لم يُفهم في زمنه، وربما ظل عصيا على الفهم إلى اليوم. ولهذا السبب اختاره براون. لا ليكتشفه، بل ليشير إلى أن في كل يقين صدعا، وفي كل لوحة سؤالا.
الرواية إذن ليست عن مؤامرة، بل عن الحق في التساؤل. وهذا ما يجعلها خطرة.
نعم، رواية. لكنها لا تُقرأ فقط، بل تدعو إلى زعزعة ما ظنناه راسخا
فهل نملك نحن شجاعة الإصغاء؟ لا لنؤمن، بل لنتساءل.
إلى اللقاء