فساد حتى النخاع

لم تعد الدولة عندنا تُدار بالقانون، ولا بالمؤسسات، ولا حتى بالنيات الحسنة. لقد اجتهدنا، فأبدعنا نظاما جديدا خاصا بنا: دولة تُفهم بالغمز، وتُدار بالإشارة، والشغاز أما القانون، فموجود، لكنه محفوظ في الأدراج، يُستدعى فقط عندما يكون في مصلحة  مالك المفتاح.

فلا عجب أن يقف الجندي عند الحاجز لا لحماية أمنك، بل لقبض ما يستطيع قبل نهاية نوبته. ولا غرابة أن يخاطبك الموظف الحكومي بلهجة رسمية، ثم يهمس إليك في نهاية المعاملة بأن الأمور لا تمضي إلا بما تيسّر. 

أما الخدمات العامة، فهي كالأطلال: شاخصة شكلا، خاوية فعلا. الكهرباء تأتيك إن دفعت، والماء لا يُعرف إن كان صالحا للشرب أم لتجارب المختبر، والمدرسة تستقبلك إن كنت من أصحاب الحظ، لا من أصحاب الحقوق.

والعدالة؟ أصبحت خيارا إضافيا لمن يستطيع الدفع. هناك عدالة نقدية فورية، وعدالة بالتقسيط، وعدالة مؤجلة إلى إشعار آخر. أما من لا يملك، فتكفيه عدالة السماء التي قد لا تأتي قبل المحشر.

السياسيون في وادٍ آخر، لا همّ لهم إلا المؤتمرات والخطابات وصور السيلفي المفلترة يحدثونك عن محاربة الفساد وهم صنّاعه، وعن دعم التعليم وهم لا يثقون بمدارس البلد، وعن الصحة وهم لا يزورون المستشفيات إلا عند الافتتاحات أو المناسبات الجنائزية.

وفي ظل هذا الغياب المزمن، أنشأ المواطن دولته الخاصة: كهرباء من شركات لا تخضع للرقابة، مياه لا تُعرف مصادرها، ومدارس لا تُفتّش مناهجها، ولا تُحاسب على نتائجها.

الناس فهموا الدرس، ولم يعودوا ينتظرون إصلاحا من فوق، بل يبحثون عن اتفاقات جانبية: تفاهم هنا، ومبلغ هناك، ومصلحة مضمونة.

والنتيجة؟ وطن يتآكل، وفساد يتناسل، وأمل معروض للبيع في المزاد ليرسو على من يدفع أعلى. لا أحد بريء، لأن البراءة في مثل هذا المناخ تهمة، ولا أحد مندهش؛ لأن الدهشة تحتاج إلى مسافة آمنة من البلاء، ونحن غارقون فيه.

الصومال لا يحتاج إلى تقارير خارجية لتشرح له حاله، بل إلى مرآة داخلية يرى فيها وجهه بصدق، وحين يفعل، سيدرك أن البلاد ليست محاطة بالمستنقع، بل قائمة عليه، وأن الفساد ليس طارئا، بل هو الأصل، وما عداه هو الاستثناء.

إلى اللقاء

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى