منذ تبنّي الصومال للنظام الفيدرالي بموجب “الميثاق الفيدرالي المؤقت” عام 2004، ثم تثبيته في “الدستور الانتقالي” لعام 2012، أصبح هذا النموذج إطارًا دستوريًا رسميًا يُفترض أن يحقق التوازن السياسي، ويُنهي حالة الاحتقان القبلي. غير أن الواقع الميداني أظهر أن الفيدرالية الصومالية لم تكن ثمرة حوار وطني داخلي، بل جاءت بإملاء خارجي فرضه المجتمع الدولي كحل تقني لمعضلة بنيوية تتعلّق بالهوية الوطنية، وتوزيع السلطة، وطبيعة الدولة. وبدلًا من أن تؤدي إلى الاستقرار، كشفت الفيدرالية عن هشاشة بنيوية في الكيان السياسي الصومالي، وأصبحت عاملاً مفاقِمًا للأزمات بدلًا من أن تكون أداة لحلّها.
أولًا: غياب هندسة دستورية متوازنة لتوزيع السلطة
يشكّل استكمال الدستور الانتقالي إحدى أكبر التحديات التي تواجه مشروع بناء الدولة في الصومال. فمنذ اعتماده عام 2012، لم يخضع هذا الدستور لاستفتاء شعبي، مما جعله يفتقر إلى الشرعية القانونية والمجتمعية. وقد أدى ذلك إلى تراكم التأويلات المتضاربة، خاصة في ظل غياب توافق سياسي وطني جامع على مضامينه. وتتمحور الإشكالات الدستورية في ثلاث قضايا محورية:
1. العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والولايات: تعترض بعض الولايات، كـ”بونتلاند”، على مسودة الدستور بحجة تهديدها لاستقلالها الذاتي، خاصة في ملفات الأمن والثروات والقضاء، بينما تسعى الحكومة الفيدرالية لترسيخ سلطتها السيادية. ويُعلق الدكتور حسن يوسف في مجلة القانون الدستوري بأن “الفقر الدستوري في توزيع الصلاحيات بين المستويين يُنتج حالة من الفوضى القانونية” (العدد 21، ص: 88).
2. النظام السياسي المفضل: تحتدم الخلافات بين مؤيدين لنظام برلماني يمنح رئيس الوزراء صلاحيات موسعة، وآخرين يفضلون نظامًا شبه رئاسي يضمن التوازن بين الرئاسة والحكومة والبرلمان، ويمنع احتكار القرار التنفيذي.
3. شكل الانتخابات: لا يزال الانتقال إلى نظام الاقتراع الشعبي المباشر معلقًا، بفعل استمرار النظام العشائري (4.5)، الذي يُقصي مفهوم المواطنة، ويُكرّس التمثيل القبلي.
ثانيًا: الفيدرالية بوصفها غطاء للزعامات القبلية
على خلاف النماذج الفيدرالية الناضجة، لم تُبْنَ الفيدرالية الصومالية على اعتبارات اقتصادية أو جغرافية، بل تأسست على تحالفات قبلية. فالولايات لم تُشكَّل على أسس تنموية، بل كانت انعكاسًا مباشرًا لهيمنة العشيرة الأقوى، مما جعل من الفيدرالية إطارًا قانونيًا لتقنين الزعامة القبلية. وقد أكدت مجموعة الأزمات الدولية في تقريرها لعام 2023 أن “الفيدرالية في الصومال لم تُقَلِّص النفوذ القبلي بل رسّخته في صورة مؤسسية” (ص: 14). ويرى الباحث أن هذا النموذج يتنافى مع مبدأ الدولة الحديثة القائمة على المواطنة، ويؤدي إلى نشوء طبقة سياسية معصومة من المحاسبة بسبب حمايتها القبلية.
ثالثًا: التضارب الدستوري بين المركز والولايات
تمتلك بعض الولايات – كمثال بونتلاند – دساتير محلية تختلف في عدد من بنودها مع الدستور الفيدرالي، مما أدى إلى تضارب قانوني يعمّق الشرخ السياسي. وقد أشار الدكتور عبد الكريم محمود إلى أن “ازدواج المرجعية الدستورية في الصومال يُنتج دولة ذات سيادتين: واحدة شكلية في المركز، وأخرى فعلية في الأقاليم” (مجلة القانون والسياسة، 2022، ص: 103). وهذا يُقوّض وحدة النظام القانوني ويُفرغ الدولة من محتواها السيادي.
رابعًا: غياب آليات التنسيق والرقابة المؤسسية:
يفتقر النظام الفيدرالي الصومالي إلى مؤسسات تنسيقية فاعلة، كالمحكمة الدستورية أو مجلس تنسيق فيدرالي أعلى. ونتيجة لذلك، تمارس كل ولاية صلاحياتها بمعزل عن الحكومة الفيدرالية، في غياب معايير وطنية موحّدة أو مرجعية قضائية دستورية لحل النزاعات. وتؤدي هذه الفجوة إلى لجوء بعض الولايات إلى تعبئة الحشد القبلي أو الاستقواء بالخارج عند نشوب الأزمات.
خامسًا: التعديلات الدستورية ومحاولة الإنقاذ
حاولت الحكومة الفيدرالية، عبر تعديلات 2024، معالجة بعض أوجه القصور، من خلال إعادة هيكلة صلاحيات الرئاسة، وتكريس مبدأ الانتخابات الشعبية المباشرة بحلول 2026، وتثبيت مرجعية الشريعة الإسلامية عبر حظر سنّ أي قانون يخالفها. كما تم تشكيل لجنة اتحادية للإشراف على الانتخابات انسجامًا مع التعديلات الأربعة المُضافة إلى الدستور المعدل، بهدف تجاوز النظام القبلي نحو بناء ديمقراطية تعددية.
لكن هذه التعديلات لم تُنهِ الخلافات، بل فجّرت اعتراضات جديدة. فالمعارضة ترى أن الحكومة الفيدرالية تسعى لفرض إرادتها على الدستور وعلى الولايات، دون ضمان حقيقي. كما أن غياب الاستفتاء الشعبي على التعديلات يجعل شرعيتها محل تساؤل، ويُضعف تمثيلها لإرادة المواطنين. وقد زاد الطين بلة التدخل الخارجي في العملية الدستورية، إذ تعارض بعض القوى الدولية هذا المسار، ما يُنظر إليه محليًا على أنه انتقاص من السيادة الوطنية.
تحليل الباحث: نحو مراجعة جذرية للفيدرالية القبلية
يرى الباحث أن الأزمة لا تكمن فقط في النصوص، بل في غياب الإرادة السياسية الجادة لبناء دولة تقوم على التشارك لا الهيمنة. إن الفيدرالية الحالية، في صيغتها القبلية، تُكرّس الانقسام وتُقوّض مفهوم الدولة الواحدة. ويُحذّر الباحث من أن الإصرار على هذا النموذج دون مراجعة شاملة سيُنتج مستقبلًا هشًّا ومفتّتًا.
توصيات الباحث لإصلاح النظام الفيدرالي
1. إطلاق مؤتمر وطني دستوري شامل، يُشارك فيه العلماء، وزعماء العشائر، وخبراء الدستور، لصياغة عقد اجتماعي جامع.
2. التحول من الفيدرالية القبلية إلى لامركزية تنموية، تُمنح فيها الإدارات المحلية صلاحيات خدمية لا سياسية، تحت إشراف السلطة الفيدرالية.
3. تأسيس مجلس فيدرالي أعلى يُشرف على توزيع الصلاحيات ويُعزز التنسيق بين المستويات الحكومية.
4. تفعيل الرقابة القضائية الدستورية، بإنشاء محكمة دستورية مستقلة تفصل في النزاعات الاتحادية.
5. ضبط التمثيل السياسي ليعكس التعدد الوطني والمواطنة، بدلًا من التمثيل العشائري الحصري.
6. إجراء استفتاء شعبي شامل على الدستور المعدل لترسيخ شرعيته القانونية والشعبية.
خلاصة المقال
إن بناء دولة صومالية مستقرة لا يتحقق عبر تعديلات شكلية أو ضغوط خارجية، بل من خلال مسار وطني نابع من الإرادة الجمعية، ومؤسس على مرجعية الشريعة الإسلامية التي يجب أن تُعدّ الميزان الأعلى لكل بند دستوري. ولا يمكن تجاوز هشاشة الفيدرالية إلا بإعادة تعريفها على أسس وطنية، تضمن التوازن والتكامل، وتُرسخ مبدأ المواطنة فوق الاعتبارات القبلية. وإلا فإن استمرار هذا النموذج دون إصلاح سيظل عبئًا على مشروع الدولة، بدل أن يكون رافعةً له.