ليست كل المدن تُبنى بالحجارة، بعضها يُشيَّد بالحبر، ويُضاء بالقناديل. ورواية قنديل أم هاشم ليست حكاية عن مسجد السيدة زينب، بل عن مساحة غامضة تفصل بين ما نعرفه وما نؤمن به، عن تلك الهوة التي تقع فيها أرواحنا حين يعود ابن الشرق بعين الغرب، فلا يرى ما كان يراه، ولا يعي ما كان يظنه واضحًا.
القنديل، في ظاهر القصة، مجرد أداة إنارة معلقة في مقام أم هاشم، ولكن على المستوى الرمزي، يتحول إلى تمثيل للضوء الروحي، للبركة، للإيمان الشعبي الذي لا يُبنى على علم التجربة، بل على حكمة الموروث. هذا النور، رغم بساطته، هو ما كانت ترى به جدة إسماعيل العالَم، وترى فيه الشفاء، لا عبر التركيب الكيميائي للزيت، بل عبر يقين القلب.
حين عاد إسماعيل من الغرب، لم يعد ينظر إلى القنديل كرمز للنور، بل كخرافة. ولكن القصة لا تُدين عِلمه، بل تُظهر أن العلم، حين ينفصل عن جذوره، حين ينسى ما يشكل الوجدان الجمعي، يصبح أداة عاجزة. فالعين التي عجز عن شفائها لم تكن تحتاج إلى قطرة، بل إلى نظرة جديدة إلى الوجود نفسه.
كتبها يحيى حقي، لا ليحسم صراعًا، بل ليُبقي السؤال مفتوحًا. لم تكن الرواية عن مواجهة بين الطب والخرافة، كما تُروى على عجل، بل عن ذلك الاشتباك الصامت بين العلم الذي نتلقاه، والموروث الذي يسكننا. إسماعيل لم يكن فارسًا منتصرًا، ولا خائبًا، بل كان شابًا مأخوذًا بدهشة التحول، يبحث عن مصالحة لا عن قطيعة، عن نظرة جديدة لا تُلغي القديمة، بل تُعيد تأملها.
القنديل الذي كُسر لم يكن رمزًا للخرافة، ولا الزيت المُراق كان فشلًا في الإيمان، بل كانت تلك اللحظة التي نكتشف فيها أن البركة، إن وُجدت، لا تعفي من السؤال، وأن الطقس، مهما كان عريقًا، لا يُغني عن الفهم، وأن الطبيب لا يكفي دون بصيرة، كما أن الرؤية لا تثمر من غير رحمة.
يحيى حقي لم يكتب رواية تصلح للاختزال، إنما كتب نصًا يسكن الوعي ويدعو إلى التأمل. لم يصرخ كما يفعل كثيرون، بل همس، لكنه همسٌ يصل إلى أماكن لا تطرقها الشعارات. كتب عن زمن تتداخل فيه المعاني، وعن ذات تحاول أن تعبُر من طور إلى آخر، من التلقين إلى الفهم، ومن إيمان موروث إلى إيمان مُجرَّب.
ولذلك، ما زلنا نعود إليه، لا بدافع الحنين، بل بدافع الحاجة. لا لأن في القنديل معجزة، بل لأن نوره لا يزال يفضح عتمات في دواخلنا. نحن الذين ما زلنا نرتبك أمام الطبيب، ونُبجّل الضريح، ونخشى الكسر أكثر مما نخشى الغفلة. نحن الذين نرتجف حين يسيل الزيت، لا لأن النور ينطفئ، بل لأننا نكتشف أن النور لم يكن يومًا في الزيت، بل في وعينا به.
قنديل أم هاشم لم تكن مجرد رواية، بل كانت عتبة وعي وقفنا عندها لنعرف أننا لسنا كما كنا نظن.
قرأت قنديل أم هاشم قبل عقود، وكنت أظن أنني فهمت الرواية، وأن القنديل لا يضيء إلا عالمًا من التناقضات بين شرق يتكئ على الغيب، وغرب يستند إلى التجريب. لكن، بعد سنوات، زرت السيدة زينب، ووقفت أمام الضريح المبارك، خاشعًا، مبتهلًا، متوسلًا بحفيدة رسول الله ﷺ، فإذا بالنص الذي ظننته مألوفًا يتفتح من جديد، لا كورق يُقرأ، بل كباب يُفتح على الداخل.
ذهبت يومها مع الصديق الأصيل، علي حلني، وكان وصولنا قبيل المغرب. فجلسنا في مقهى قريب، واحتسينا الشاي بصمت يشبه صلاة مؤجلة. كانت القاهرة تميل إلى المغيب، والضوء يتكسر على الأرصفة العتيقة.
مع المغرب، دخلنا المسجد، وفي القلب رجفة ليست من نوع الرجفات التي تصاحب السفر إلى مكان جديد، بل تلك التي ترافق العودة إلى مكان قديم نحبه، ونهابُه في الوقت نفسه.
في تلك اللحظة، عرفت أن إسماعيل لم يكن غريبًا عني، بل كان وجهي الآخر، وأن القنديل لم يُكسر، بل هو من كان يحتاج أن يرى نوره. فهمت أن البركة لا تُختزل في طقس، ولا الشفاء في دواء، بل إن الإنسان، حين يُصالح بين عقله وقلبه، يشفى من التيه.
ولهذا… ما زال القنديل يضيء.