تبدو الخرطوم منذ عهد الرئيس السوداني السابق “عمر البشير” أكثر العواصم الإفريقية فهماً لتوجهات أنقرة في القارة الإفريقية، ويعود ذلك برأيي إلى البوتقة التاريخية العريقة التي حظيت بها الدولة السودانية، والتي كان لها الدور الأكبر في تشكيل هوية المؤسسات السياسية والأمنية والإستخباراتية السودانية على مر العصور، وهو ذاته ما يفسر نجاح السودان في إستيعاب رؤية تركيا التي بدت للمراقب الدولي أقرب لتحدي أطراف إقليمية تحاول منعها من إيجاد موطىء قدم لها في البحر الأحمر، وهذا ما إلتقطته الدبلوماسية السودانية باكراً وعملت على تطوير أدواته، فثلما تدرك أنقرة أن عودة التواجد التركي في البحر الأحمر سيكون من البواية السودانية، فهي أيضاً تدرك بأن الخرطوم وبعد سلسلة متواصلة من الخذلان العربي لملفها، باتت اليوم على أتم الإستعداد لإقامة تحالفات إستراتيجية جادة مع كافة القوى الإقليمية التي ترى فيها سودان ما بعد البشير فرصة لإستعادة دورها القديم كلاعب إقليمي محوري في شرق إفريقيا، خاصة أن تلك القوى الإقليمية باتت تُشكل رقماً صعباً في السياسة الدولية
لم تكن الخرطوم بعيدة عن الحراك التركي الأخير الذي أفضى إلى “إعلان أنقرة” وحل النزاع بين الصومال وإثيوبيا في ديسمبر الماضي، فتشير بعض المصادر الأمنية “الفرنسية” بأن أنقرة إستعانت بشخصيات سودانية “أمنية وسياسية” مقربة من السفير التركي السابق في السودان “عرفان أوغلو” صاحب مقولة “بريدك يا سودان” والذي سيذكر التاريخ دوره البارز في تطوير العلاقات السودانية التركية وإرساء ركائزها، في دلالة واضحة على إدراك تركيا لأبعاد ومألات الدور السوداني في منطقة القرن الإفريقي وقدرته على تغيير قواعد اللعبة السياسية في تلك المنطقة.
لم يكن التقارب السوداني التركي يوماً محل رفض أو خلاف بين الأوساط السياسية السودانية حتى تلك المناهضة لما أسمته بــ”إزدواجية حزب العدالة والتنمية”، ولكن جاء اللغط حول ذلك التقارب من خارج إطار الدولة السودانية فبعض دول الخليج العربي ترى في ذلك التقارب تحدياً لها ومنافساً لمصالحها في البحر الأحمر وهذه رؤية عززتها القاهرة التي تخشى من عودة الأتراك إلى عمقها الإستراتيجي وبالتالي ستعمل على الحيلولة دون تفوق العلاقات السودانية التركية على حسابها، ولكن في المقابل هناك إعتراف عربي -خليجي “ضمني” يرى بأن الدبلوماسية التركية في السودان تفوقت على نظيرتها الخليجية والعربية وحققت نتائج ملموسة يمكن ببساطة رؤية عمق أثرها في حجم السلاسة السياسية المتبادلة بين الجانبين والتي أفضت إلى تحجيم سقف الحذر المزمن الموسوم بالأجهزة الأمنية ومنتسبيها، ناهيك عن المستوى الفكري والعلمي للأكاديمين السودانيين المنتسبين للجامعات التركية ونظرائهم من الجامعات الأخرى، وأرى أن نجاح الدبلوماسية التركية في السودان جاء تحديداً للأسباب الأتية:
- إستيعاب أنقرة لتاريخ السلطنات والممالك السودانية القديمة، والإشكاليات الأثنية والقبلية والسياسية والدينية التي لازمت الدولة السودانية الحديثة من الإستقلال حتى اليوم، مما ساعدها في فهم الشخصية والمزاج السوداني.
- إدراك تاريخ وسياسة دول الجوار الإقليمي للسودان والتعاطي معه بما يصب في مصلحة السياسة التركية في السودان.
- وجود قاعدة شعبية سودانية عريضة دعمت التوجهات التركية في سودان البشير وما زالت داعمة لذات التوجهات قي سودان ما بعد البشير، والتي تراها بأنها توجهات لا ترتكز على الإملاءات، والضغوط السياسية، ومصادرة السيادة الوطنية.
أرى أن المبادرة التركية ستتجه نحو طريقان:
- الطريق الأول: إكمال ما بدأ وإنتهى إليه منبر جدة والتفاوض حول بعض نقاطه، وهذا قطعاً سيتم بالتنسيق مع الأطراف الإقليمية المشاركة في ذلك المنبر، والأطراف الدولية الفاعلة في المشهد السوداني وعلى رأسهم “الولايات المتحدة” الساعية إلى إنهاء ملف الأزمة السودانية قبل العشرين من الشهر الجاري، وإذا كان قد رسِم لهذا الطريق أن يستمر لما بعد العشرين من يناير لإطالة أمد الحرب، وإعطاء المليشيا فرصة لتنفس الصعداء وإعادة ترتيب وضعها على الأرض إعتماداً على الإدارة الأمريكية الجديدة التي قد تُجدد نهج “غض الطرف الدولي” عما يحدث في السودان، فالحل هو قطع الطريق على ذلك التوجه، وإن كان الإسراع في حسم المعارك في بعض المناطق المتبقية صعباً قبل وصول “دونالد ترامب”، إلا أن مضاعفة العمل الدبلوماسي لإنتزاع إجماع دولي يقضي بتصنيف مليشيا الدعم السريع مليشيا إرهابية أقرب للتحقق.
- الطريق الثاني: دعم فرض هيبة المؤسسة العسكرية السودانية والعمليات الساعية إلى بسط السيادة الوطنية، ولتوضيح ذلك أرى أن أنقرة تدرك أن الرؤية الدولية لمستقبل سودان ما بعد البشير إنتهت بخسارة رهانها على مليشيا الدعم السريع الذي كانت تطمح من خلاله إلى تغيير واقع الشرق والوسط الإفريقي، وعليه لو تم مضاعفة تسليح الجيش السوداني ودعم عملياته العسكرية التي نجحت إلى حد كبير في توسيع رقعة إنحسار سيطرة مليشيات الدعم السريع على العديد من المناطق التي خرجت عن سيطرة المليشيا فهذا سيسهل فرص نجاح المبادرة التركية، وسيُضيف لسجل أنقرة موقف تاريخي داعم لمستقبل علاقاتها بالقارة الإفريقية، ولو فرضنا جدلاً أن هناك بعض القيادات التركية لديها تحفظات حول ذلك لرغبة أنقرة في الظهور علناً بمظهر الواقف على مسافة واحدة من الطرفين كونها قائدة لهذه المبادرة، فهناك من النقاط والملفات والوسائط التي تمتلكها الخرطوم لإنجاج هذا الطريق، وفي ذات الوقت تعزز فرص أنقرة لطرح ملامح هذا التوجه.
في ضوء إدراك أنقرة لحجم الدور الروسي في مجلس الأمن والداعم للسيادة الوطنية السودانية فمن المؤكد أن تكون هناك مشاورات تركية -روسية سيكون لها كبير الأثر في إنجاح المبادرة التركية لحل الأزمة السودانية، والتي قطعاً لن تكون بمعزل عن رئيس مجلس السيادة الإنتقالي الرئيس “عبد الفتاح البرهان”، وعليه يقترح على الخرطوم العمل على الأتي:
- الإستثمار في التقارب التركي الروسي حول الملف السوداني والعمل على البدء بتنفيذ ما يمكن أن نطلق عليه “سودان الشرق والغرب”، والذي أطلقت عليه الصحافة الفرنسية ذات مرة بـــ ” Un Soudan avec un esprit oriental et des mécanismes occidentaux” وتعني باللغة العربية “السودان بروح شرقية وأليات غربية”، وهذا توجه سوداني قديم طالما تاقت الخرطوم لتنفيذه، وحاولت سودان البشير إستجلاب أسبابه ولو إختلاقاً، ولكن الظروف الدولية في ذلك الوقت حالت دون ذلك، ولتحقيق نتائج مرجوة حول ذلك أرى ضرورة الإستعانة بالقيادي السابق في المؤتمر الوطني “إبراهيم غندور” لتبنيه لهذا التوجه وشخصيته الإنفتاحية المعتدلة ناهيك عن القبول الإقليمي والدولي الذي يحظى به منذ رئاستة لوزارة الخارجية السودانية 2015-2018
- العمل على الإنخراط في التحالف الإستراتيجي الجديد الذي تسعى أنقرة على تشكيله مع دول منطقة القرن الإفريقي والذي بات قاب قوسين أو أدني من التنفيذ، وأرى أن هذه الشراكات الإستراتيجية تحتاجها الخرطوم تكريساً لشرعيتها الوطنية، وإمعاناً في عزل مليشيات الدعم السريع عن المشهد السياسي السوداني وإضعاف تعاطيها الإقليمي والدولي مع كافة الأطراف.
خليجياً: في ظل هذه التطورات المتلاحقة في الملف السوداني والذي ستفرز تحالفات جديدة في الشرق الإفريقي، من المحتمل أن تجد الدبلوماسية الخليجية نفسها وحيدة أمام تلك التحالفات، مما قد يدفعها لتغيير رؤيتها في إفريقيا المستقبل، وأخشى ما أخشاه أن يؤدي إختلاف الرؤى السياسية بين دول مجلس التعاون الخليجي حول بعض الملفات في القارة الإفريقية إلى تبني سياسات التضاد التي ستقضي على مستقبل العلاقات الخليجية الإفريقية.
ترى النخب الإفريقية بإختلاف توجهاتها السياسية أن الدبلوماسية التركية في إفريقيا كانت وما زالت تجني ثمار حراكها الإيجابي “المدروس” على كافة الأصعدة، وهو ما تراه أنقرة اليوم حصاداً مستحقاً يليقُ بحكمتها المعهودة ودورها المستقبلي في القارة الإفريقية، وهذا ما يؤهل نجاح مبادرتها في السودان التي إن نجحت ستساهم قطعاً في توسيع قاعدتها الشعبية الإفريقية والتي باتت تشكل اليوم رقماً لا يستهان به.
د. أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي