التقارب السوداني الأرتيري “المد والجزر السياسي”

تقول الحكمة الأفريقية القديمة “لا قيمة للخشب أمام الذهب ولكن عند الغرق تختلف الحسابات”

من المسلم به أن الحسابات السياسية والأمنية في منطقة القرن الإفريقي هي الأكثر وضوحاً والأسرع تقلباً والأعمق تأثيراً ويعود ذلك برأيي إلى الموقع الجغرافي الإستراتيجي لتلك المنطقة، وطبيعة الشعوب والقبائل المتداخلة والتاريخ المشترك بين تلك الدول، وهذا ما أدركته الخرطوم باكراً فحافظت على كافة المسافات بينها وبين دول القرن الإفريقي وفقاً لتقلبات المد والجزر السياسي الذي يعصف بالقارة الأفريقية منذ إستقلال معظم دولها في حقبة الستينات من القرن الماضي.

فيما يتعلق بالتقارب السوداني الأرتيري الأخير فتختلف رؤية القيادات في القرن الأفريقي لذلك التقارب ففي الوقت الذي تشجع فيه مقديشو هذا التقارب ولو تهيأت لها الفرصة ستشارك به وستدعم أجندته، نجد أن رؤية أديس أبابا لذلك التقارب يسير في إتجاهين:

    الإتجاه الأول:   تدرك أديس أبابا منذ بدء الحرب السودانية في إبريل 2023 أن أسمره تسعى إلى الإستفادة من ضبابية الموقف الأثيوبي من الأزمة السودانية وفي ذات الوقت تعمل أرتيريا على التقارب مع القيادة السودانية التي باتت أقرب لحليفتها روسيا في دلالة واضحة بأن التقارب السوداني الأرتيري وإن لم يتم رسم ملامحه في موسكو إلا إنه أقرب ما يكون لرؤيتها المستقبلية في البحر الأحمر .

    الإتجاه الثاني: قناعة القيادات الأثيوبية منذ عهد الراحل “مليس زيناوي” إلى رئيس الوزراء الحالي “أبي أحمد” بأن أسمره تطمح منذ بداية نشأتها 1993 للحصول على حيزاً من التقدير تفتقده في إقليمها مقارنة بأثيوبيا، فأرتيريا ومنذ إستقلالها عن أثيوبيا في تسعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا وهي تحاول جاهدة طرح نفسها كحليف قادر على حماية المصالح الدولية حتى وإن أبخصتها معظم الأطراف الدولية حقها وبالتالي ما الضير من الإقدام على مغامرة قد تعيد بها القوى الدولية النظر في أسمره كلاعب محوري في القرن الأفريقي.

أرى أن توقيت تصريح الرئيس الأرتيري “أسياس أفورقي” الأخير بإنخراط قواته المسلحة للقتال لصالح الجيش السوداني في حال وصلت مليشيات الدعم السريع لولايات “كسلا، النيل الأزرق، القضارف، البحر الأحمر” جاء ليحقق الأتي:

رغبة أسمره في التعاون مع الخرطوم لإجهاض مساعي الحكومة الإرتيرية الإنتقالية في المنفى “TEGIE”، والتي تتعاون مع السلطات الاثيوبية لتحسين وضع المواطنين الأرتيريين المقيمين في إثيوبيا، ومما ساهم في تدهور العلاقات بين أسمره وأديس أبابا هو موافقة الأخيرة على تنظيم مؤتمر للمعارضة الارتيرية على أراضيها في أغسطس الماضي بحضور أعضاء من “Brigade Nhamedu” الذين أكدوا على ضرورة تشكيل جبهة موحدة وتقديم إقتراح لإنتقال سياسي في إرتيريا تم تسليمه للسلطات الأثيوبية وهذا التوافق الأثيوبي مع المعارضة الأرتيرية طبعاً قابله دعماً أرتيرياً لمجموعة ” FANO” المتمردة في إثيوبيا، إلا إني أرى أن تحقيق هذا المسعى لحكومة الرئيس “أسياس أفورقي” من خلال الخرطوم يبدو صعباً في ظل الظروف التي يمر بها السودان اليوم، فالقيادة السودانية الأن تتجنب فتح بؤر قتال إقليمية ضدها في ظل تقدم العمليات العسكرية التي يخوضها الجيش السوداني ضد مليشيات الدعم السريع وبالتوازي مع نجاح الدبلوماسية السودانية إقليمياً ودولياً في فرض إستحقاقها على كافة المستويات وهذا ما يفسر تضاعف عدد الوفود الدبلوماسية والأممية للقاء القيادات السودانية وليس من الفطنة التضحية بتلك المكتسبات لشراء موقف سياسي.

إنخراط الجيش الأرتيري في دعم العمليات العسكرية لصالح الجيش السوداني إذا وقع سيعزز من الحضور السياسي  والأمني الأرتيري في المجتمعات المحلية المشتركة مع السودان خاصة بين مجتمع بني عامر والبجا، في إطار مساعي أسمرة الحثيثة لحل أزمة المجتمعات المحلية حول ملكية الأراضي في تلك الولايات الحدودية مع السودان “كسلا، البحر الأحمر، القضارف،

فدول الجوار الإقليمي لمنطقة القرن الأفريقي يجتمعون على حقيقة واحدة مفادها أن الصراع بين أثيوبيا وإرتيريا هو صراع قائم ومتجدد قد يؤجله تحالف يولد بين أسمره وأديس أبابا ولكن لا ينهيه، والخرطوم  تدرك حقائق الأنظمة السياسية المجاورة لها إقليمياً، وذلك بسبب الدور الأمني والإستخباراتي والسياسي الذي لعبته الخرطوم في تأسيس تلك الأنظمة ودعمها للوصول للحكم، بدءاً من حكم الراحل زعيم النهضة الأثيوبية “مليس زيناوي” مروراً بإقامة معسكرات التدريب في شرق السودان “كسلا” بقيادة اللواء “عثمان السيد” لتدريب العناصر العسكرية والأمنية التابعة للرئيس الأرتيري الحالي “أسياس أفورقي” ووصولاً إلى إسقاط نظام “منغستو هيلا مريام” في حقبة تسعينيات القرن الماضي .

د.أمينة العريمي

باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
زر الذهاب إلى الأعلى