في المقاعد الخلفية أسرار وكنوز

في أحد الأيام المعتادة، عندما كنت أستعد لدخول محاضرة الماجستير، توجهت كعادتي إلى المقاعد الخلفية، وهو مكان لم أكن أتصور يومًا أنني سأجلس فيه طوال سنوات دراستي. كان من المعروف عني، منذ أيام المدرسة، أنني أحب الجلوس في المقاعد الأمامية، حيث يمكنني التركيز والاندماج في الدروس بسهولة. لكن هذا الأمر تغير مع دخولي مرحلة الماجستير.

في تلك المحاضرة، بينما كنت أجلس في مقعدي الخلفي، لمحت أستاذي الذي كان يعرفني جيدًا منذ أيام الدراسة الجامعية الأولى. كان يتذكرني دائمًا على أنني الطالب الذي يحب أن يجلس في المقدمة، يتابع بشغف، ويشارك في كل نقاش. لكنه بدا متفاجئًا حين لاحظ أنني اخترت مكانًا في الجزء الخلفي من القاعة. ابتسم ابتسامة خفيفة، ثم اقترب مني وقال بصوت مازح: “هل هذا أنت حقًا، الذي كان لا يرضى إلا بالصف الأول؟ ماذا حدث؟”

ابتسمت وقلت له: “أستاذي العزيز، يبدو أن الزمن قد غيّرني. هناك سحر في هذه المقاعد الخلفية لم أكن أعرفه من قبل.”

جلس بجانبي للحظات، وقال: “أخبرني، ما الذي جعلك تتحول إلى هذه الزاوية الهادئة؟”

بدأت أروي له قصتي، كيف كنت في السابق أشعر أن الجلوس في المقاعد الأمامية يعطيني أفضلية في التعلم، حيث يمكنني أن أكون قريبًا من المعلومات، أستمع لكل كلمة، وأكون دائمًا في حالة استعداد للمشاركة. لكن مع مرور الوقت، ومع تقدم سنوات الدراسة، بدأت أبحث عن تجربة مختلفة. لم أعد أرغب في أن أكون دائمًا في المقدمة، بل أردت أن أراقب الأمور من زاوية أخرى.

أخبرته كيف أن المقاعد الخلفية تعطيني شعورًا بالاستقلالية. هناك، بعيدًا عن عيون الجميع، أستطيع أن أركز على ما يهمني فعلاً. لم أعد أشعر بأنني مضطر للتفاعل في كل لحظة، بل أصبحت أختار متى وكيف أريد أن أشارك. هذا التغير أعطاني حرية لم أكن أعرفها من قبل. أصبحت أفكر بشكل أعمق، وألاحظ التفاصيل التي قد تفوتني لو كنت جالسًا في الأمام.

كان أستاذي يستمع بانتباه، ثم قال: “لكن هل تشعر أن هذه الحرية أثرت على تفاعلك مع المواد التي ندرسها؟”

أجبته قائلاً: “على العكس، هذه الحرية أعطتني مساحة أكبر للتفكير. عندما أجلس في الخلف، أستطيع أن أرى الصورة الكاملة. أستطيع أن أراقب زملائي، ألاحظ ردود أفعالهم، وأتأمل كيف يتفاعل الجميع مع الموضوعات التي ندرسها. وهذا ساعدني على تطوير طريقة تفكيري. لم أعد أركز فقط على التفاصيل الدقيقة، بل أصبحت أفكر في الأمور بشكل شامل.”

تابعت قائلاً: “هناك أيضًا جانب آخر، وهو أن الجلوس في الخلف يمنحني نوعًا من الخصوصية. أحيانًا، أحتاج إلى لحظات من التأمل، إلى أن أترك عقلي يسافر بعيدًا عن المحاضرة لبضع دقائق، دون أن أكون تحت أنظار الجميع. هذا الوقت القصير من الانعزال يساعدني على إعادة ترتيب أفكاري والعودة إلى الدرس بتركيز أكبر.”

ابتسم الأستاذ وقال: “يبدو أن المقاعد الخلفية قد أضافت لك الكثير من الحكمة.”

أجبته وأنا أبتسم: “ربما، لكنها بالتأكيد أعطتني منظورًا جديدًا. أصبحت أفهم أن التعلم ليس فقط في الجلوس في المقدمة أو الاستماع لكل كلمة تُقال، بل هو أيضًا في القدرة على المراقبة، على الاستفادة من اللحظات الصغيرة، وعلى التفكير بعمق في كل ما يحدث حولي.”

ثم أكملت: “وفي النهاية، أعتقد أن هذا التغيير كان ضروريًا لي. لقد ساعدني على النضوج، وعلى رؤية الأمور من منظور أوسع. وربما، عندما أنهي مرحلة الماجستير، سأكون قد تعلمت ليس فقط من الكتب والمحاضرات، بل أيضًا من هذه المقاعد الخلفية التي منحتني هذه التجربة الفريدة.”

ابتسم الأستاذ وقال: “أنا سعيد جدًا برؤية هذا التطور فيك. يبدو أنك قد وجدت في المقاعد الخلفية ما كان ينقصك في الأمام. أحيانًا، نحن بحاجة إلى تغيير بسيط لنكتشف أشياء عظيمة.”

ودعني بابتسامة مشجعة، وعاد إلى مكتبه. ومنذ ذلك اليوم، كنت أرى الأمور بنظرة مختلفة، وأدركت أن الجلوس في الخلف لم يكن تراجعًا، بل كان خطوة نحو الأمام، نحو فهم أعمق وأشمل لما يدور حولي.

محمد بن الحسن

كاتب وباحث صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى