بعد يوم غد سنودّع عاما ونستقبل عاما اخر، ولا أقول جديدا لأنني لا ارى فيه جديدا، وانما هو تكرار للايام والشهور السالفة ولا تحمل جديدا في طياتها. وكاننا ندور مع الايام أينما دارت كمثل ريشة في مهب الرياح، يسلّمنا يوم الى يوم حتى اذا وصلت سبعة استثقلوها فقالو أسبوعا بدل سبعة ايام، فشهرا بعد أربعة أسابيع، فسنة بعد أثنتا عشر شهرا، وهذه الايام والشهور ليست في الحقيقة الا يوما واحدا ممتدا في عمر الانسان ولكن الناس قسموها الى مواقيت مختلفة لقضاء حوائجهم وتسيير شئونهم.
عبد بأية حال عدت يا عيد * بما مضى ام بأمر فيك تجديد
اما الاحبة فالبيداء دونهم * فليت دونك بيدا دونها بيد
ونحن نقول مع شاعرنا المتنبي ” عام بأية حال عدت ياعام ……” فالمتتبي لم يجد في الأعياد شييا جديدا يحقق بها اماله وانما رآها استمرارا لترسيخ إخفاقاته والتصدي لطموحاته. فماذا كانت آمال شاعرنا وطموحاته؟ طلب العزة والملك والسؤدد التي رآها في يد من هم اقل منه حكمة واسخف عقلا. طلبها بجميع الحيل وباء بالفشل الذريع، وفاته ان الايام في رفعها وخفضها للأنام لا تسير على سنن منطقية معهودة وانما تخبط خبط عشواء فترفع الجاهل الغمر الى ذروة العُلى وتخفض العالم الحصيف الى الحضيض اعتباطا، كمن يحتطب ليلا فلا يدري اوقعت يده على جوهر ثمين ام على حيّة رقطاء تنفث السموم.
ومن سخرية القدر ان شاعرنا قد طلب العز والشرف عن طريق الرياسة والملك، ولكن الله أعطاه ملكا اخلد وأوسع من الرياسة السياسية والولاية الدنيوية التي سعى اليها طوال عمره الا وهو ملك الادب الذي خلد اسمه في سجلات الخالدين. وما ذا بقي من اسماء هولاء الملوك الذين كان يمدحهم ويتقرب اليهم ويتوددهم من اجل توليته ولاية مهما كانت ضئيلة هامشية. فقد يفني الانسان عمره لنيل أمل يراه مهما في حياته ولكن الله يصرفه عنه من حيث لا يدري الى تحقيق أمل اخر أكثر بركة وأنفع له في حياته ويكون له منه بقاء الذكر الحسن والصيت الطيب. وكم من العلماء والمثقفين من دخلوا في مستنقع الصراعات السياسة ولم يستطيعوا الخروج منها فغرقوا فيها، فلا هم حققوا شييا ذا بال في السياسة ولا هم نفعوا الناس بعلمهم وثقافتهم.
نهاية عام في حقيقة الامر مناسبة للمراجعة والاعتبار وليست مناسبة للفرح ولا للتهنئة، ذلك عادة جرى عليها العرف وانطلقت بها الالسن. ترى الناس يقولون بعضهم لبعض “كل عام وأنتم بخير وأعاده الله علينا بالخير والبركة” يقولون ذلك بافواههم حتى ولو لم يكن في عامهم هذا خير يرجون استعادته ولا بركة يطلبون استزادتها. ومثل ذلك ان تسأل احدا عن حاله، فيجيبك على الفور بخير، حتى وان كان يتململ في آلم مبرح! قد يكون الانسان في تجربته الطويلة على ظهر هذه البسيطة مع البشر عرف ان شكوى الالم للناس اكثر ايلاما احيانا من الالم نفسه ولن يعود عليه اي نفع ببث شكواه اليهم غير الشماتة فآثر مجازاة ابتسامة بابتسامة. وسؤال الناس عن احوال بعضهم البعض نفسه لا يقصد منه في كثير من الأحيان لمعرفة الحالة الحقيقية لمن نوجه اليه السؤال وأنما جرى ذلك مجرى المجاملة ولذلك لا ينتظر منك الا ان نرد المجاملة بمجاملة مثلها.
فماذا تعني اذا نهاية عام؟ نهاية عام تعني نهاية جزء من حياتنا، وهل حياتنا الا أعمارنا، فكلّما زاد في عمرك عام انتقص من حياتك عام، زيادة في طيّ النقصان. وجزر في ثنايا مدّ.
ارى العيش كنزا ناقصا كل ليلة .. وما تنقص الايام والدهر ينفد.
ولا يقاس بركة العمر بطول عمر الانسان وأيام بقائه في هذه الارض يغدو ويروح ويأكل وينام ويسخط ويرضى ويسكت ويثرثر، وانما يقاس بركة عمره بما حقَّق من اماني وخلٌف وآراءه من الاعمال الخالدة وما افاد للانسانية في رحلة بحثها عن المعنى في حياتها. وقد كان ابن سيناء يقول في دعايه، ” اللهم اني أسالك عمرا عريضا” اي حافلا بالعطاء والانجازات وان لم يكن طويلا. وهناك علماء كبار لم يتجاوزوا الأربعين او جاوزوها قليلا في حياتهم ولكنهم حققوا إنجازات مهمة وخلَّفوا اثارا عظيمة تخلد أسماءهم، ومن هولاء العلماء: معاذ بن جبل الصحابي وعمر بن عبدالعزيز وبديع الزمان الهمداني وابن مظهر وكذلك النووي مات في الخامسة والاربعين مع ما ترك لنا من المؤلفات النافعة المفيدة. وهكذا فكما لا تقاس الأعمار بطولها كذلك لا تقاس الأعوام بكثرتها وأنما بما تحمل في طياتها من الامال وما يحقّق الانسان فيه من الإنجازات.
وماذا بعد؟ لا اريد ان أقول ان عامي كان سعيدا، فهذا كذب محض ولا اريدان اكذب على نفسي، ومن تعمد الكذب على نفسه فلن يتوقع منه الا يكذب على الآخرين، ومع ذلك فالكذب من سمة الانسان، والناس يكذبون لاعتبارات مختلفة، فمنهم من يكذب لمصالح او منافع يخاف فوتها ومنهم من يكذب لدفع مضرة يخشى وقوعها، ومنهم من يكذب ليس لجلب مصلحة ولا لدفع مصرة وانما يكذب من اجل الكذب فقط لانه مجبول على الكذب. ومن يقول لك انه لم يكذب طول عمره فاعلم ان قوله هذا نفسه كذبة بيضاء فلا تتعب نفسك عن البحث عن أكاذيبه الاخرى. وما لي ولموضوع الكذب، وتلك من آفات الاستطراد التي اصابتنا عدواها من شينخنا الاديب الجاحظ شيخ المستطردين.
وما ذا كنت أقول قبل هذا الاستطراد؟ كنت أقول انني لم أكن سعيدا في هذا العام كل السعادة ولكنني لم أكن كذلك ساخطا كل السخط، وانما الايام دول، بوم يسرّ ويوم يسيئ، يوم نصيب ويوما نصاب. وليس في دنيانا هذه سعادة محضة ولا شقاوة خالصة، وانما السعادة مشوبة دايما ببعض الشقاء، والأفراح ممزوجة بتباريح الالم. وكذلك الشقاء لا يخلو شييا من السعادة الخفية والأتراح لا تأتي الا في ثنايا الافراح. فمن رام سعادة صافية كمن رام الشطط، وتحدى سنن الله في خلقه. ثم ما هي السعادة التي نطلبها ونجري وراءها؟ فكم من سعيد ولكنه لا يشعر بتلك السعادة ولا يقدرها حق قدرها حتى اذا فقدها عرف ما كان فيه من خير عميم ونعمة وافرة، ثم يشتاق الى تلك الايام ويبكي عليها. وهل منا الأ من يحنّ الى ايام شبابه وفتوته، ولما كنّا شبابا لم نكن نقدر نعمة الشباب وجماله وحيويته وانما كنّا زاهدين فيه ونجار بالشكوى من ظلم الرمان وخطوب الدهر. وهكذا فكل منا يتذمر مما هو فيه من الخير ويشرئب عنقه الى مجاهل لا يعرف منها شييا، فنحن كمن يرمي الثمار في يده ويطمح بصره الى الثمار فوف الشجرة.
ثم ان الناس لا يشعرون بالسعادة على طريقة واحدة، وانما يختلفون بشعورها لاختلاف أذواقهم واهتماماتهم. فمنا من يجد سعادته في الفوز بابتسامة جميلة من ثغر حبيبته، ومنا من بجدها في جمع المال، ومنا من يجدها في ترقي المناصب والمناكب، ومنا من يجدها في القراءة والكتابة، ومنا من يجدها في العبادة والتقرب الى الله، ومنا من يجدها في الاكل الشهي والشراب اللذيذ، ومنا من يجدها في ايذاء الناس او حتى قتلهم وغير ذلك مما لا يحصى من لذات العقل وشهوات الجسد، وكل ميسّر لما خلق. وقد يسعد الجاهل بجهله ويشقى العالم بعلمه كما قال المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله .. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وقد كان بعض العلماء الربانيين يقولون: لو علم الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليه بالسيوف، ولكن أنى للملوك ان يطمحوا الى تلك السعادة الروحية التي لا يؤتيها الله الا من أحبّه من عباده، وقصارى ما ياملونه من السعادة تلك المظاهر الزائفة والابّهة الخادعة وليس ذلك الا سراب يحسبه الظمآن ماء.
سيقول بعض الناس ما هذا العام الجديد الذي يتحدث عنه الرجل؟ وما شاننا بهذا العام المسيحي ولنا عامنا الإسلامي الهجري؟ فلهم ان يقولوا ذلك وهذا من حقهم، ولنا كذلك ان نكتب في هذه المناسبة التي نراها مناسبة تستحق الكتابة. صحيح، ان العام الميلادي ليس من انتاج حضارتنا الاسلامية والتقويم الهجري هو الذي يمثل تراث وتاريخ امتنا ولكنني لا اظن ان احدا منا ينكر لما للعام الميلادي من تأثير عملي في حياتنا. واذا سالت احدا من هولاء المنكرين أحداثا محددة في حياته فلن يستطيع ذكرها الا مستعينا بالعام الميلادي، ولن يفكر في التقويم الهجري الا من رحمه الله. وهذا من اثار طبيعة حياتنا المزدوجة التي نعيشها منذ الأفول الحضاري لامتنا ولم نستفق بعد من اثار صدمة الحضارة الغازية، مثلنا كمثل من كان غارقا في نومه فسقط عليه سقف بيته ولم يمت ولكنه خرج مصدوما لا يعرف ما حدث له ولم يستوعب بعد اثار الصدمة، فهو في حالة هذر لا يميز فيه بين الغث والسمين وبين الصحيح والسقيم وبين ما يدع وما يأخذ من الدار التي سقط سقفها عليه. نومة شبيهة كنومة اصحاب الكهف ويقظة كيقظتهم، فان اصحاب الكهف بعد ان لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين الا تسعا لم ينتفعوا بأوراقهم النقدية القديمة بعد بعثهم فحاروا في امرهم فتوفاهم الله.
يبدو ان هذا العام لم يكفه ما اصابنا به من الآلام في الايام والشهور الماضية فحزم أمره على وداعنا بطعنة نجلاء بل بطعنتين، طعنة على مستوى الأمة واُخرى على مستوى الفرد. فالاولى هي الجريمة النكراء التي وقعت قبل يومين في مقديشو ووقع فيها ضحايا كثيرة من أبناء وبنات شعبنا الأبرياء الذين فقدوا ارواحهم الزكية على يد جماعات ارهابية تستلذ بإراقة دماء شعبنا.
كيف احتراسي من عدوي اذا .. كان عدوي بين اضلاعي.
والطعنة الاخرى انني أصبت بوعكة صحية صرت معها طريح الفراش. اظن ان هذه الطعنة جاءت من شؤم الكتابة عن نهاية عام وبداية عام جديد؛ فإنني بدأت كتابة هذا المقال سالما معافى، وما ان وصلت الى منتصف المقال حتى شعرت بحمّى تنتشر في جسدي، وكأن العام ينتقم على من تسوّل نفسه الكتابة عنه وعن ضحاياه فأرداني متململا على فراشي. ولكنني -والحمد لله- قد هدأت عني اليوم لفحة الحمى. واكملت كتابة مقالي وان كنت قد نسيت افكارا كنت اريد كتابتها في اول الامر. فمن عادتي انني اذا بدأت كتابة مقال احب الا أتوقف حتى أكمله، فاذا توقفت لامر ما، فان ذلك يؤثر تسلسل الافكار في ذهني وأنسى أشياء كنت اريد ان اقولها. وان رايتم شييا من الترقيع وعدم التناسب في مقالنا فهذا سببه ونرجو منكم ان تبسطوا لنا العذر.
ختاما، أرجو لكم – ايها الاخوة والاخوات – عاما طويلا عريضا مليئا بالمسرات حافلا بالانجازات مفعما بالخيرات، انه على ما يشاء قدير.
عبدالواحد عبدالله شافعي