يعتبر المساجد في المجتمعات الإسلامية مراكز إشعاع النور الحضاري، حيث إنها لا تقتصر فقط على كونها دور عبادة تقام فيها المشاعر التّعبدية فقط، بل كانت وما زالت المساجد في المجتمعات الإسلامية دور عبادة، ومراكز تعليمية، ووسائط تربوية، منها تتلقى الأجيال الإسلامية أسس التربية والمعارف والتعاليم الإسلامية الأخرى.
والمجتمع الصومالي، كغيره من المجتمعات الإسلامية، يعتبر المسجد معلما مهما من معالم حضارته الإسلامية، إذ إنه –أي المسجد- لعب دورا كبيرا في تصقيل الشخصية الصومالية وتكوينها عبر التاريخ، حيث إن المساجد في الصومال ساهمت بصورة واضحة في نشر العلوم الإسلامية والعربية بين أوساط المجتمع الصومالي، وذلك لكونها – أي المساجد- المراكز التعليمية الوحيدة المنتشرة في الصومال قبل مجيء الاحتلال إلى الصومال وإنشائه للنظام التعليمي الحديث.
ولا يعني ذلك أن دور المسجد في المجتمع الصومالي انتهى بمجيء الاحتلال وإنشائه المدارس النظامية، بل واصل المسجد دوره الريادي في توعية المجتمع الصومالي حتى استطاع إقناع المجتمع بمحاربة المحتل، إذ تثبت الوقائع التاريخية أن أول من حمل السلاح ضد الاحتلال كانوا من أبناء المساجد حيث إن المشائخ هم الذين قادوا النضال الوطني ضدّ الاحتلال الأوربي في بلاد الصومال، وخير مثال لذلك السيد محمد عبدالله حسن قائد حركة الدراويش، والشيخ حسن برسني أحد أبرز رموز القيادة الوطنية الصومالية ضّد الاحتلال الأوروبي والحبشي في الصومال، وهما ينتميان إلى الطرق الصوفية التي ساهمت وبشكل فعّال في نشر الإسلام في أفريقيا بصفة عامة، وفي الصومال بصفة خاصة.
ولاشكّ أن الأنظمة التعليمية الحديثة التي رافقت مسيرة الاحتلال للعالم الإسلامي، أثّرت في حياة الصوماليين، وبالتالي ساهمت في تراجع رواد المساجد الراغبين في الحصول على العلوم الإسلامية والعربية، ومع ذلك استمرّ تأثير المساجد في ثقافة المجتمع بل وساهم في تكوينها وحفظها.
وهكذا واصل المسجد دوره في توعية المجتمع الصومالي عبر الدروس الدينية والندوات العلمية، إضافة إلى ذلك المحاضرات ذات المواضيع المتنوعة والموسمية، وخطب الجمعة التي تتناول مواضيع اجتماعية بل وسياسية في بعض الأوقات والتي كانت تقام في المساجد.
وقد كان التعليم الحلقي هو النظام التعليمي في المساجد الصومالية وفق منهج خاص لكلّ مسجد إلاّ أن هذه المناهج تتقارب وتتشابه فيما بينها لوحدة المواد الدراسية التي يتم تدريسها في حلقات المساجد.
“ونعرض هنا أهم الفنون التي كان يتلقاها طلاب العلم في الحلقات، وأهم الكتب التي كانوا يعتمدون عليها:
أولا: العقيدة: العقيدة الأشعرية” مثل: السنوسية وشرحها، وجوهرة التوحيد وشرحها، وبدء الآمال، والخريدة البهية، وأصول الثلاثة، وفتح المجيد، ورسائل الإمام حسن البنا، وما إلى ذلك.
ثانيا: التفسير: وكان يدرّس في شهر رمضان من كل عام، تبركاً بشهر نزول القرآن الكريم في تدريسه، وفي الأغلب كان المشائخ يدرّسون تفسير الجلالين للإمامين: المحلي والسيوطي، وحاشية الجمل، والصاوي.
ثالثا: الحديث: كان الطلبة يدرسون متن الأربعين للإمام النووي، ثم مختصرابن أبي جمرة وحاشيته، وهكذا حتى يتم الوصول إلى ما يمكن تدريسه من كتب الأمهات الست وصحاح السنة.
رابعا: الفقه: يدرس الطالب كتاب سفينة النجا وسفينة الصلاة، ثم متن الغاية والتقريب لابن أبي شجاع، ثم شروح هذه المتون، ثم متن المنهاج، والتنبه، ومتن الإرشاد، وشروحهم، ثم فتح المعين، وفي أصول الفقه كانوا يدرسون كتاب: الورقات وشروحه، وجمع الجوامع وشروحه، واللمع في أصول الفقه، والمنهاج للبيضاوي.
خامسا: اللغة كانوا يدرّسون المواد الآتية:
- النحو: للمبتدئين: متون النحو المختصرة، متن الآجرومية، ومتن العمريطي، والمتوسطين: شروح كتاب الآجرّمية وحواشيه، ثم كتاب الكواكب الدرية، وملحة الإعراب، ثم قطر الندى وبلّ الصدى، وشروح هذه الكتب، والمنتهين: ألفية ابن مالك وشروحها وحواشيها.
- الصرف: متن لامية الأفعال وشروحه: مثل شرح بدر الدين ابن المصنف، ثم شرح البحر الصغير والكبير، ثم كتاب حديقة التصريف وشرحها للإمام الزيلعي المتأخر.
- الأدب: للمبتدئ: لامية ابن الوردي، ثم شرح بعض القصائد مثل: قصيدة البردة، وقصيدة الهمزية وكلاهما للبوصيري، ثم قصيدة بانت سعاد وشرحها، والمتوسط: مقصورة ابن دريد وشرحها، وطيبة الغراء للنبهاني، والمنتهي: مقامات الحريري وشرحها، والمعلقات العشر وشروحها.
- البلاغة: كتاب السمرقندية، وجوهر المكنون.
- وفي المنطق: كتاب أيساغوجي، ومنظومة: السلّم المنورق.
- وفي العروض: كتاب الكافية في العروض والقافية.
- السلوك والزهد: كتاب بداية الهداية، وكتاب تعليم المتعلّم طريق التعلّم، وكتاب الحكم لابن عطاء الله”.
هكذا كانت المساجد تقوم بنشر العلوم الإسلامية والعربية بين المجتمع الصومالي حتى الاجتياح الإثيوبي للعاصمة الصومالية مقديشو أواخر عام 2006م، حيث دخلت المدينة حينها في حرب شوارع شرسة ضدّ القوات الإثيوبية مما أدى إلى نزوح عدد كبير من سكّان مقديشو وما نتج عن ذلك من إغلاق لبعض المساجد بسبب نزوح معظم سكان تلك المنطقة والّذين يمثلون جماعة المسجد والمنتظمين بأنشطته التعبّدية والتعليمية، أو وقوع المسجد في جبهة من جبهات القتال مما حوّل بعض المساجد إلى ثكنات عسكرية لم تعد تصلح لإقامة المشاعر التعبّدية فيها، فضلا عن أداء دورها التوعوي في المجتمع الصومالي، وهنا أصاب بعض مساجد مقديشو بعض القصور أو الجمود في أداء رسالتها السامية لفترة زمنية محددة.
ثم ما زالت المساجد أن استأنفت أداء رسالتها بعد الانسحاب الإثيوبي وتحسّن الأوضاع الأمنية في العاصمة الصومالية مقديشو، وشرعت من جديد في مهمة نشر العلم عبر الحلقات التعليمية، ولقيت قبولا واسعا في الأوساط الشبابية، حيث لوحظ ارتيادهم –أي الشباب- الواسع لحلقات الذكر والعلم التي تقام في المساجد، وخاصة في الأوقات الليلية، أي بعد قضاء نهارهم في طلب الرزق أو التعليم الأكاديمي في المدارس والمعاهد والجامعات، وذلك للجمع بين الأصالة والمعاصرة في طلب العلم وتحصيله.
هذا، وقد بدأت بعض المساجد تتناول مواضيع حساسة ومتنوعة ولها علاقة بالجوانب السياسية والاجتماعية للمجتمع الصومالي في خطب الجمعة لتوضيح الحكم الشرعي منها، وللحث على طرق التعامل المناسب مع هذه القضايا السياسية والاجتماعية على الوجه الّذي يعود بالنفع العام على المجتمع وفق رؤية إسلامية واضحة المعالم والمؤثّرات.
وختاما، يبدو مما سبق، أن المساجد كانت ومازالت تلعب دورا كبيرا في توعية المجتمع الصومالي وتثقيفه، مما يساعد على استمرارية تمسّك هذا المجتمع بثقافته الإسلامية رغم الهجمات الشرسة التي تشن عليه وعلى لغته العربية بل وعلى معتقداته الدّينية في بعض الحالات، إلا أن كلّ هذه الهجمات تتحطم وتندثر أمام صمود المساجد وأداء رسالتها السامية في توعية المجتمع وتثقيفه، مما يتطلب من أعيان المجتمع الاهتمام بالمساجد وتلبية حاجاتها المادية والمعنوية والتي تساعدها على ممارسة أداء رسالتها السامية وفق منهجها الدعوي الحضاري القائم على مبدأ “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”.