بعد مضيّ تسعة أشهر من توليه رئاسة الإقليم، برزت للتوّ في الساحة السياسية بعض الأصوات المعارضة التي تطالب الرئيس مصطفى مُحُمِّد عمر بالاستقالة من منصبه، على اعتبار أنه فشل في إدارة المرحلة الانتقالية الراهنة، معلّلين بأن فترة تسعة أشهر كافية لتقييم سياساته، والحكم عليها بالنجاح أو بالفشل. فهل حقا فشل الرئيس في إدارة المرحلة الراهنة، ولم يعد مقبولا للجميع؟.
من طبيعة الإنسان الصومالي التسرّع في إطلاق الأحكام جزافا، دون رؤية وتعقّل، والحكم على أي مسؤول، في أي موقع، بالفشل. فمعيار الفشل لديه قائم أساسا على معادلة بسيطة جدا، وهو أنه إذا لم يجد في المسؤول مصلحة ما فإنه يحكم عليه بالفشل!، ذالك أن رؤيته للفشل مبنية بالدرجة الأولى على مصلحة شخصية، أو فئوية، أو عشائرية، فمتى ما فشل المسؤول في تحقيق مآربه، فإنه يستحقّ بجدارة أرفع وسام الفشل السياسي، منه، ومن العشيرة التي يتحدث باسمها، وهكذا يعود المسؤول في نظره الشخصي غير جدير بإدارة المرحلة الراهنة، ويجب عليه الاستقالة فورا.
فالمطالبون باستقالة الرئيس مصطفى، ينطلقون من هذا المنطق العشائري الضيق، رغم إدراكهم جيدا للحالة التي يمر بها الإقليم، لكنهم يفضلون لغة العزف على وتر القبلية، كورقة ضغط، حتى يرضخ لمطالب عشائرهم. فما يبحثونه ليس سوى الالتفات إليهم، والجلوس معهم على انفراد، للتحاور معهم بمطالب عشائرية، تكاد تبدو بعضها غير واقعية في الظرف الراهن.
فالحقيقة، أن الرجل الذي يطالبونه بالاستقالة فورا من منصبه، قد ورث أوضاعا سوداوية من المخلوع عبدي محمود عمر، بالذات على الصعيدين السياسي والاجتماعي، ومن ثم لا يمكن له تحقيق معجزة في غضون بضعة أشهر، وهذا ما قاله فعلا رئيس الوزراء أبي أحمد، في فبراير الماضي، واجتمع عليه وجهاء العشائر في أكثر من مناسبة، مطالبين الجميع إعطاء فرصة كافية للرجل، إذ لا يمكن للرئيس مصطفى أو أي سياسي أخر، أن يُصلح في غضون شهور، ما أفسده المخلوع عبدي محمود عمر طيلة ثماني سنوات، ما لم يكن هناك رؤية سياسية، وتوافق سياسي، وتنازلات من الجميع، للخروج من عنق الزجاجة بسلام.
ولاشك أن الرجل قطع شوطا لا بأس به من الإصلاحات السياسية حتى الآن، بدءًا من اقتلاعه برموز النظام السابق، وإبعادهم عن المشهد السياسي، مرورا بتشكيله مجلسا للوزراء، يحظى – على الأقل – بدعم شريحة واسعة من المجتمع، وانتهاءا بفوزه إعادة هيكلة الحزب الصومالي الديمقراطي، وهذا كله كان مطلبا شعبيا أفرزته الثورة، ضد المخلوع عبدي محمود عمر، ووعدا قطعه مصطفى على نفسه، لتمكين السلطة للشعب، ولا يزال أمامه الكثير لتحقيقه، تتمثل في فرض سلطة الحكومة على جميع الولايات، ووضع حدّ للفساد المستشري داخل مؤسسات الحكومة، والشروع في مصالحة جادة بين العشائر التي بدأت تتناحر فيما بينها، ووضع حدّ لأطماع أوروميا التوسعية على حدود الإقليم، لكنه في ذات الوقت ثمّة صعوبات من منافسه الشرس، رئيس الحزب الحاكم ووزير المالية في الحكومة الفيدرالية، السيد أحمد شذي، والذي ينافسه في إدارة الإقليم. ولا يخفى على متابع لأحداث الإقليم الأخيرة، الخلاف الحاد الذي حصل بين الرجلين، قُبيل انعقاد مؤتمر الحزب، وإلى أين وصل ذاك الخلاف، حتى تدخّل رئيس الوزراء أبي أحمد، وعقد مصالحة بين الرجلين في أديس أبابا، لمصلحة الظرف الراهن. لكنه خلاف كامن – في نظري – سيظهر للعلن، عاجلا إن آجلا، لسبب بسيط، وهو تباين رؤية الرجلين في كيفية إدارة المرحلة الانتقالية، وكلاهما يريد إبراز عضلاته السياسية، وإظهار أنه رجل المرحلة. فهذا الصراع العلني/الخفي بين الرجلين، والذي قد ينفجر في أية لحظة، ربما قد يفضي إلى تأزيم الوضع السياسي لفترة، ويعطّل تنفيذ مشاريع الحكومة الحالية، لينتقل عدوى الخلاف سريعا إلى داخل الحزب “الهشّ في نظر البعض”، فتحدث حالة شرخ وانقسام بين الحزب لصالح الرجلين، فيفقد الرئيس مصطفى – تدريجيا – القدرة على تسيير إدارة المرحلة، ومن ثم اتهامه مباشرة بالفشل في إدارة الإقليم، لتعلو أصوات المعارضة وتطالبه بالاستقالة فورا من منصبه.
فعندما نعارض سياسات الرئيس بمنطق العشيرة، ونحكم عليه بالفشل في إطار تلك المعادلة، فإن ذلك يعني أننا نقيّم سياساته من منظور المصلحة الشخصية، والعشائرية، وليس من منظور برنامجه السياسي، ما قد يضعف حجّيّتنا بأنه فعلا فشل في إدارة المرحلة الانتقالية.
فالثابت في التجارب السياسية، أن العقلية الصومالية العشائرية تظل متمسكة بموقفها البدائي الأول، غير القابل للتطبيق على أرض الواقع، دون النزول إلى المستوى الثاني المتوفر والمتاح لديها، في حين يحاول المسؤول إقناعها بما يتوفر لديه من إمكانات لتجاوز ظروف المرحلة، لكن دوى جدوى، لأن عقلية العشيرة ترى في البديل المطروح، انتقاصا من قيمتها، واستهتارا بمكانتها الاجتماعية، فتظل ترفض وترفض كل البدائل المطروحة، حتى تتحقق لها ما ترضى به العشيرة، فلا تهمها المصلحة العليا – التي تتشدّق بها – بقدر ما يهمهما إشباع رغباتها في المقام الأول، وعلى حساب الكل.
هذه العقلية [المنفعجية] قصيرة النظر، والتي تساوم في كل شيء – كشرط أساسي للدخول في أي مفاوضات لتجاوز المرحلة الراهنة – لا تصلح أبدا أن تكون شريكا فاعلا في العملية السياسية، لأن عقلية منكمشة كهذه، والتي لا تتعدّى تفكيرها حدود العشيرة ومضاربها، لا تتجاوب بسهولة مع متطلبات المرحلة الانتقالية، إذا لم تجد مصلحتها في المقام الأول، فإرضاؤها أولى وأهم من بناء حكومة فاعلة تعكس تطلعات الشعب. فالشعب في مفهوم هذه العقلية المنكمشة، هي العشيرة، بالتالي يصعب التقدم إلى الأمام في ظل عقلية ضحلة كهذه، فهي تفضل الانغماس والتمرّغ في وحل الفشل أكثر، إذا لم تتحقق مطالبها، لتباشر لاحقا توجيه لائحة اتهامات بالفشل للرئيس، بمقاسها العشائري، دون أن تدري أنها تسبّبت في ذلك.