أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي الأكاديمي هايلي مريم ديسالين ، أمس الخميس عن استقالته من منصبي رئيس الوزراء ورئيس الائتلاف الحاكم وذلك في خطاب نقله التلفزيون الرسمي. وقال هايلي مريم إن قرار الإستقالته جزء من الجهود الجارية لوقف الإضطرابات التي أدت إلى خسائر في الأرواح ونزوح كثيرين.
جاءت إستقالة رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريم ديسالين بعد سنوات من الإحتجاجات والإضطرابات التي شهدتها عدد من المناطق في إثيوبيا وخاصة في المناطق الأورومية والأمهرية، دفعت الحكومة إلى إعلان مبادرة تعد الأولي من نوعها منذ تولى الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية الحكم مطلع التسعينات، لإنهاء العنف تشمل اطلاق سراح السجناء السياسيين ، واستئناف المفاوضات مع الأحزاب السياسية والجبهات المسلحة، وقد تم افراج بموجب هذه المبادرة أكثر من ستة آلاف سجين سياسي منذ يناير كانون الثاني، وكان معظمهم شخصيات معارضة بارزة وصحفيين اعتقلوا بتهمة الضلوع في الاحتجاجات الحاشدة.
غير أن هذه المبادرة لم تسفر حتى الآن عن إنهاء العنف، بل ساهمت على صعيد آخر في تأجيج الخلافات بين الائتلاف الحاكم ، حيث بدأ أعضاء منه مؤخرا بالإتهام برئيس الوزراء المستقبل هايلي مريم ديسالين بالضعف والحيرة في سبل إنهاء الإضطربات التي هزت صورة البلاد وفق تقرير نقلته هيئة الإذاعة البريطانية قسم اللغة الصومالية ما دفع ديسالين في نهاية المطاف إلى تقديم استقالته الدراميه والمفاجئة.
هذه الإستقالة فتحت الباب على مصراعيه للتساؤل حول التطورات السياسية في إثيوبيا أحد أقدم وأقوى دول منطقة شرق افريقيا والتي تتمسك بعدد من الخيوط الأمنية والسياسية في عدد من دول المنطقة، وعن أسباب إستقالة رئيس وزرائها ؟ وهل سيدخل البلاد في نفق سياسي مظلم نتيجة تصاعد الخلاف بين اقطاب الائتلاف الحاكم واستمرار الاحتجاجات بعد الإستقالة أم النخبة الحاكمة ستنجح في احتواء ملابساتها وإعادة الإمور إلى نصابها؟
للإجابة عن هذه الأسئلة لابد أن نرجع قليلا إلى الوراء لمعرفة طبيعة نظام الحكم في البلاد والتطورات السياسية والأمنية التي شهدها البلاد منذ وفاة رئيس الوزراء السابق ميلس الزيناوي وانتخاب ديسالين خلفا له عام 2012.
الائتلاف الحاكم
يحكم اثيوبيا منذ سقوط نظام “منجيستو هيلا مريام عام 1991 الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية وهي ائتلاف مكون من أربعة أحزاب هي “المنظمة الديمقراطية الشعبية للأورومو”، و”الحركة الديمقراطية الوطنية للأمهرا”، “الحركة الديمقراطية للشعوب الجنوبية الإثيوبية”، و”الجبهة الشعبية لتحرير التجراي”.
وقد نشأت الجبهة الثورية الديمقراطية في بدايات تأسيسها سنة 1989م بقيادة “ملس زيناوي”، من الجبهة الشعبية لتحرير التجراي، والمنظمة الديمقراطية لشعب الأورومو المكونة من تحالف الأورومو المنضمين للجبهة الشعبية لتحرير التجراي، والأورومو المنضمين للجبهة الثورية الديمقراطية، ووالأورومو المنضمين للحركة الديمقراطية لتحرير الشعب الإثيوبي، كما انضمت إليها “حركة الضباط الديمقراطيين” المنشقين عن نظام الـ”منجستو” بعد أسرهم من قبل “الجبهة الثورية الديمقراطية للشعب الإثيوبي”.
من هو رئيس الوزراء المستقيل ؟
عين الائتلاف الحاكم في شهر أغسطس عام 2012 هايلي مريم ديسالين رئيسا للوزراء خلفا لملس زيناوي الذي توفي في 21 من أغسطس في نفس العام، شغل ديسالين مستشارا لملس ثم عين نائبا له عام 2010، وتولى قبل تعينه رئيسا للوزراء مهام القائم بعمل رئيس الوزراء زيناوي الذي كان آنذاك خارج البلاد لتلقي العلاج. جاء اختيار ديسالين نائبا لملس عام 2010 مفاجأة كبيرة لأسباب عدة، أبرزها صغر سنه نسبيا وانتمائه إلى القوميات الصغيرة، لكن كان ينظر إليه على أنه يحظى بثقة زيناوي.
كان يحظى ديسالين أيضا احترام الإثيوبيين وعولوا عليه بعد توليه منصب رئيس الوزراء وكانوا يتوقعون تحسن الأوضاع السياسية والإقتصادية في البلاد في ظل رئاسته بإعتباره شخصية جاءت من خارج المجموعات العرقية التي حكمت البلاد في العهود الماضية، وكونه رجلا ذا خلفية غير عسكررية.
ولد هايلي مريم في مدينة (بولسو سوري) في اقليم ولاييتا بمنطقة الأمم الجنوبية، وتخرج من كلية الهندسة بجامعة أديس أبابا عام 1988 وحصل على شهادة الماجستير من جامعة تامبيري للتكنولوجيا بفلندا، عمل ديسالين لفترة في معاهد علمية بأديس أبابا قبل أن يصبح رئيسا للمنطقة التي ينحذر منها ثم نائبا لرئيس الوزراء ووزير الخارجية وظل على هذا المنصب حتى أصبح عام 2012 رئيسا للوزراء بعد وفاة سلفه مليس زيناوي.
التطورات السياسية منذ عام 2012
شهدت فيدرالة إثيوبيا التي يتجاوز عدد سكانها 90 مليون نسمة منذ عام 2012 واقعا جديد تمثل في نقاطتين هامتين:
النقطة الأولى: لأول مرة في تايخ إثيوبيا الحديث يتولى شخص خارج قومتي تقراي والأمهرة سدة الحكم في البلاد وهو رئيس الوزراء المستقيل هيلامريم ديسالين الذي ينحدر من قبيلة صغيرة تدعى ولايتا التي تقطن في جنوب إثيوبيا في حين كان الرؤساء ورؤساء الوزراء السابقين من القوميات الكبري كالتقراي أو الأمهرة. وهذ التطور شكل نقطة تحول كبيرة للنظام السياسي الإثيوبي أفقدت قومية تقراي رئاسة جميع المناصب العليا للدولة كالبرلمان ومجلس الشيوخ والرئاسة ورئاسة الوزراء وأثرت سلبا على تماسك الجبهة الحاكمة، حيث ظهرت بوادر خلاف بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية ، ومن بين أسباب هذا الخلاف رغبة قيادات عسكرية من القومية التقراي في ممارسة مزيد من القمع والاضطهاد ضد القوميات الأخرى في البلاد، بينما كانت غالبية السياسيين من القوميات الأخرى ترفض ذلك التوجه، والمخاوف المتزايدة لديهم من أن تفقد قومتهم نفوذها في مؤسسات الدولة في خضم الاصلاحات التي يجرها رئيس الوزراء هيلامريم ديسالين، وبدأت هذه القيادات تتحالف مع الكنيسة الأورثوذكسية والعسكر لإجهاض سياساته الاصلاحية.
ومنذ سنوات كان يواجه ائتلاف الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية (EPRDF) الحاكم صراع نفوذ بين الجبهة الشعبية لتحرير تقراي (TPLF) أقوى أحزاب الحكومة ويقية أعضاء الإئتلاف (EPRDF) بدأ يبرز بشكل يهدد على وحدة الإئتلاف ، وهذا ما عبر عنه رئيس الوزراء الإثيوبي هيلي مريام ديسالين خلال الكلمة التي ألقاها في المؤتمر الـ35 لحزب أمهره (ANDM) في يوم السبت الـ21 نوفمبر 2015.
أكد ديسالين في كلمته أن إخفاق الحكومة بمحاربة الفساد يعتبر جريمة كبيرة ترقى إلى مستوى الخيانة الوطنية بحق الشعب الإثيوبي ونضاله الطويل، ودعا جميع أحزاب الإئتلاف الحاكم إلى توحيد كافة جهودها في محاربة الفساد والإرهاب ومواجهة ما وصفه بالتكابر والإستعلاء الذي يمارسه البعض والرؤى السياسية الضيقة. وقد تزامنت كلمة رئيس الوزراء المستقيل مع تصريح أدلى به نائبه أشار فيه أن الجبهة الشعبية لتحرير تقراي ليست أهم ولا أقوى من بقية أحزاب الإئتلاف.
شهدت أروقة الائتلاف حراكا ومشاورات ساخنة لإدارة ملف الخلافات والإنقسام الكبير داخل أحزاب الائتلاف وفي سبل مواجهة القيادات العليا والمتنفذة والمتهمة بالفساد المالي والإداري. وبلغ الأمر إلى دعوة بعض القيادات البارزة لأحزاب الائتلاف إلى ضرورة إتخاذ إجراءات عقابية بحق الشخصيات المتهمة بالفساد من خلال إستبعادهم من الحكومة وتقديمهم إلى المحاكمة. وهذا ما رفضته قيادات الجبهة الشعبية وأصرت بحل الأزمة عبر اللوائح الداخلية المنظمة لعمل الائتلاف.
النقطة الثانية: ولأول مرة منذ اعتماد الدستوري الحالي عام 1994 تشكل البرلمان في الإنتخابات التشريعية الأخيرة من دون المعارضة الحقيقة، حيث حصد الائتلاف الحاكم في إثيوبيا مع الأحزاب المتحالفة معه 546 مقعدا من جملة 547 بالبرلمان في الانتخابات التشريعية التي جرت في الـ 24 من مايو/أيار 2015. في حين لم تفز المعارضة سوى مقعد واحد.
تسبب هذا الوضع الجديد الذي أفرزته الانتخابات التشريعة لعام 2015 في تأجيج مشاعر الغضب لدى المعارضة السياسة تجاه هيمنة الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الأثيوبية والأحزاب المتحالفة معها منذ اكثر من 25 عاما على المشهد السياسي في إثيوبيا بدعم من الكنيسة الأورثوذوكسية، والجيش، كما تسبب في اندلاع إضطرابات طلابية احتجاجا على مشرعات اقتصادية كانت تنفذها الحكومة.
وكذلك أعطت نتائح الإنتخابات التشريعية الأخيرة جرعت للقوى المعارضة المسلحة، حيث بدأت منذ إعلان النتائج عدد من الفصائل المسلحة ومن بينها جبهة (TPDM) من إقليم تجراي، وجبهة تحرير أورومو (OLF)، وجبهة (GPLM) من إقليم جمبيلا، وجبهة (BPLM) من إقليم بنشاجول. وجبهة (ADFM) من إقليم أمهري بتصعيد عملياتها العسكرية ضد القوات الإثيوبية.
تداعيات الإستقالة
على الرغم من خروج رئيس الوزراء هايلي ماريم ديسالين من المشهد السياسي في ظل هذه الأجواء المشحونه الا أن تداعيات استقالته لن تكون خطيرة، ولن تشكل تهديدا حقيقيا على أمن واستقرار إثيوبيا مهما بلغ حجم الإحتجاجات والإضطرابات فهذا أمر مستبعد في ظل المعطيات الحالية وفي أبعد الحدود سيقتصر تأثيرها على الائتلاف الحاكم وذلك للأسباب التالية:
أولا: إثيوبيا دولة محورية بالنسبة للقارة الإفريقية وكذلك بالنسبة للحملة الدولية لمحاربة الارهاب التي تقودها الولايات المتحدة وخاصة حركة الشباب الصومالية والمرتبطة بتنظيم القاعدة، وتحتضن عاصمتها مقرات اقليمية ودولية. وبالتالي تحتفظ إثيوبيا بعلاقات جيدة مع جيرانها وبقية الدول الأفريقية باستثناء إريتريا التي يتنازعان على ملكية مناطق في الحدود بين البلدين، والأزمة مع مصر بشأن سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا على نهر النيل والذي ظل منذ السنوات الأخيرة تحديا أمام تطور العلاقات بين البلدين، وهذه الأطراف والقوى الاقليمية والدولية تشكل أيضا صمام أمان لأمن واستقرار البلاد ولا يمكن أن تقف متفرجة أمام انحدار إثيوبيا إلى الهاوية.
ثانيا: ضعف التيارات المعارضة السياسية والمسلحة في إثيوبيا بسبب تعددها وتتنوع أفكارها وايدلوجياتها وأنها لا تتمتع بتأييد قوي من المجموعات العرقية التي تنتمي اليها. كما تفتقر كيثر من هذه التيارات الي دعم خارجي سواء أكان ماديا أو معنويا وهو الأمر يقلل تأثير تلك الحركات في الشأن السياسي الداخلي.
ثالثا: تتميز إثيوبيا عن غيرها من دول منطقة القرن الإفريقي بتماسك مجتمعها وولائه الشديد للوطن واعتزازها بتاريخه الحضاري العريق الممتدد الي ما قبل الميلاد وباعتبارها البلد الإفريقي الوحيد الذي لم يخضع للإستعمار، وهذا العامل سيكون سر الاستقرار في المرحلة المقبلة.
رابعا: في المجال الاقتصادي، يعد الاقتصاد الإثيوبي واحدا من أسرع الاقتصاديات نموا في القارة الأفريقية، وأطلقت الحكومة الإثيوبية عام 2010 خطة طموحة لرفع معدل النمو. وبحلول عام 2025 يتوقع إثيوبيا أن تكون بلدا ذا دخل محدود وبالتالي فالشعب غير مستعد لإهدار مثل هذا الإنجاز.
لكن في المقابل لا يمكن استبعاد استمرار الإحتجاجات واتساع رقعتها ومواصلة المعارضة السياسية ممارسة مزيد من الضغوط على النظام من أجل القيام بمزيد من الإصلاحات السياسية ورفع القيود عن الإحزاب السياسية، غير أن قيادات الجيش التي لها نفوذ كبير في إدارة البلاد لن تستسلم لهذه الضغوط وانها ستواجه أعمال الشغب بمزيد من الإجراءات الأمنية حفاظا على هيبة إثيوبيا ودورها في المنطقة.