بحثت عن تعريفات “التخلف” والذي هو في اللغة بمعنى التأخر، فوجدت أن المصطلح بدأ انتشاره في خمسينات القرن الماضي، وأن أكثرالتعاريف هي بمعيار مادي وغاب عنها المعايير الأخرى، فأصبح التخلف يطلق على الدول الفقيرة التي أثقلتها الديون والتبعية للخارج، والتي لا تمتلك التكنولوجيا وغيرها.
فأصبح هذا المعيار شائعا بين الناس والذي هو رؤية وضعها الغربيون، وجعلوا أنفسهم هم المتقدمون ومن سار على طريقهم، وهم الممثلون لركب الإنسانية، فلا حضارة إلا حضارتهم ولا نجاة إلا باقتباس منهجهم.
ولو جعلنا مفهوم التخلف بمعايير أخرى، كمعيار الإيمان والقييم والأخلاق والحق والباطل، وعرضنا جميع الأمم عليه لانقلبت كل الموازين، ولكن لضعفنا أوتينا من جانب الدعاية والإعلام فأخذنا المفهوم بمعيار واحد، فاعتقدنا أن من سار على طريق الغربيين- رغم كفرهم واحتقارهم للإنسانية وعنصريتهم- هو المتقدم، والشخصية الإسلامية- رغم إيمانه وحسن أخلاقه وإنسانيته – هوالمتخلف.
وهذا الأمر هو الذي انتشر في العالم الإسلامي، وكذلك في المجتمع الصومالي، وهو ما أدى إلى الابتعاد عن تعلم العلم الشرعي والنظر إلى طالبه نظرة سلبية، بل تعدت تلك النظرة السلبية إلى نفسية طالب العلم الشرعي، فمثلاً: لو مررت على أربعة طلاب يدرسون في أربع تخصصات مختلفة مثل: الطب، الهندسة، الإقتصاد والشريعة، وسألتهم عن تخصصاتهم لأجابك كلهم مفتخرين رافعين رؤوسهم إلا صاحب كلية الشريعة في الغالب، فيجيب بصوت منخفض مع ابتسامة مصطنعة، ويقول بأنه يدرس أيضا معهدا إنجليزيا، و يريد أن يغير هذا التخصص أو أشياء أخرى تُشعرك بأنه ليس مرتاحا لهذه الكلية وأنه يشعر بالنقص. بل حتى السائل عند سماعه للثلاثة الآخرين يهز رأسه ويصافحهم بقوة ويتخيلهم خبراء ومدراء وقادة المستقبل، أما عند سماعه لصاحب كلية الشريعة يمازحه قائلا: يا شيخ!. وهويتصورمستقبله في ذهنه شخصا لابسا ثوبا أبيضا، يتزوج أربعا، يخطب الجمعة، يُدرّس كتبا، يفتي، يلقي محاضرات ، وأن مهنته منحصرة في المساجد ودور القرآن فقط لا غير! ، ولا يتصور أنه يمكنه أن يدير شركة، أو يكون ناشطا سياسيا أو اجتماعيا أو غير ذلك.
والتخلف الذي أعنيه هنا هو تأخر طلاب العلم الشرعي عن غيرهم من أصحاب التخصصات الأخرى في المجالات المادية والسياسية والاجتماعية والتجارية وليس في المجال العقدي أو الأخلاقي.
ومن الأسباب التي أدت إلى أن يشار طلاب العلم الشرعي بالتخلف عن غيرهم في تلك المجالات المذكورة ما يلي:
- هزيمتهم النفسية وانكسارهم أمام غيرهم ممن هم في تخصصات أخرى، كالهندسة، والطبّ، وغيرهم، وشعورهم بالإحباط والدونية، واعتقادهم الخاطئ بأن هؤلاء أفضل منهم وأرفع شأنا في المجتمع، وذلك بسبب تهويل الإعلام وتهوينه، وتقليله من شأنهم. ولذلك يرى هذا الطالب أنه لا يستحق أن يكون ناشطا اجتماعياً، أو إعلامياً، أو تاجراً، أو سياسياً، أو وزيراً ، أو رئيسا.
- عدم ثقتهم بأنفسهم، وذلك بسبب هزيمتهم النفسية، فينظرذلك الطالب إلى نفسه نظرة احتقار، وإلى علم الشريعة نظرة سلبية، وأن هذا العلم يقيده في لبسه وسلوكه- لأنه يرى نظراءه يلبسون ويفعلون ما يريدون ويندمجون في المجتمع أكثر- حتى وصل ببعضهم الأمر إلى الخجل من استخدام المصطلحات الشرعية، والفرارمن اللغة العربية واللجوء إلى اللغة الإنجليزية ظنا منهم أنها تحضراً، ويظن أن من أتى بـ قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يبدوا غريبا ورجعيا ومتخلفاً في المجتمع. ويخجل عندما يمر أمام فتيات فتحدثه نفسه أنّه ليس جذابا بهذا اللبس وهذا السلوك وأنه ليس بالزوج الرومانسي وفتى الموضة الذي تحلم به هؤلاء الفتيات، ويظن أنه كطالب علم شرعي لا ينبغي له إلا أن يكون منقبضا، عابسا، لا يخالط مجتمعه، بل وصل ببعضهم إلى التضايق من العلم الشرعي والخروج من كلية الشريعة والإلتحاق بتخصصات أخرى والانقطاع التام عن علم الشريعة، ومن ثَم يشعر بالتحرر فيسب العلماء ويطعن في بعض مقدسات الإسلام، ويستهزئ من الجماعات الإسلامية وأفكارها، فيصفهم بالدونية والتخلف.وغير ذلك مما ينتج عن عدم ثقته بنفسه وبدينه.
- صغر الهمة عند بعضهم، فترى أنه يتعلم الشريعة لأجل عَرض قليل، كأن يشار إليه بالبنان فيعدم البركة فلا يُنتفع به ولا ينفع، ومن قليلي الهمة من إذا أصبح مدرساً أو عاملا في مكان ما ليس بذي شأن اكتفي به ولم يتطور لا من جانب المعرفة ولا من جانب العمل. ومنهم من إذا حصل على البكالوريوس توقف عندها وكأنه وصل إلى المطلوب فلا يتقدم إلى الأمام.
- تحديد أنفسهم بكلية الشريعة فقط والإكتفاء بها- التركيز على جانب يكون على حساب الجانب الآخر- واعتقادهم بأنهم لا يجيدون إلا هذه الكلية ، وأنا لا أقصد أولئك الذين يريدون بلوغ المراتب العليا في العلم الشرعي والتخصص فيه والإنقطاع له رغبة منهم.
فبعضهم خلق الله فيه القيادة وتحمل المسؤولية، ولو زاد على تعلمه الشريعة بعلوم أخرى ترفع من قدراته القيادية كعلم الإدارة، والسياسة الشرعية، والعلاقات الدولية، والتاريخ، وغيرها مما يؤهله لتولي زمام الأمور وقيادة الأمّة لعظُم في المجتمع، وعم به النفع.
ومنهم من لو تعلم الهندسة لاخترع كتبا إلكترونية أو مكاتب أو شيئا يخدم علم الشريعة ويسهّل تعلمها أوتعليمها، ولكن لو مثل هذا جلس في مكانه، وأصبح مدرسا في مادة التربية أوالعربية في المدارس الإبتدائية مع أنه ليس موهوبا في ذلك المجال، ولا يتعداها إلى مطمح آخر لاشك أن هذه الهبة ستصبح موءودة.
- تحديد مجال عملهم في التدريس فقط، فيعتقد أنه لا يملك إلا ذلك المجال فتراه عند تخرجه من الجامعة يقدم ملفاته للمدارس والمعاهد فقط، وإن لم يجد عملا من تلك الأماكن جلس في مكانه، وإن سئل أجاب بأنه لم يجد عملا، وكأن الأرزاق عُلقت بمهنة التدريس فقط فلا يتقدم لسواها.
وهذه الأسباب وغيرها مما جعل بعض الناس يشيرون إليهم بتلك الصفة، ولكن هذا هو جانبهم السلبي، فلنتطرق إذاً إلى إيجابياتهم وما يميزهم عن غيرهم ويجعلهم أكثر تحضراً على من سواهم حتى ننظر إليهم بمنظارين، وهي ما يلي:
- أنهم يمتلكون مبادئ قوية وعقائد راسخة، لا تتزحزح بالسهولة كغيرهم من الذين لديهم مبادئ أضعف أوأقل من مبدئهم، كمبدأ الوطنية، والقومية، والتي هي إما محدودة أو هدّامة، والذين يتأثرون بسهولة مع الأفكار الغربية أوالمنافية للإسلام.
- أنهم أوسع معرفة بالتاريخ الإسلامي من غيرهم في الغالب ، فلذلك يدركون نقاط وأسباب ضعف المسلمين وأسباب انتصارهم، ويدركون بأن العاقبة للمسلمين، ولايستطيع أحد أن يحرف لهم تاريخهم؛ لأنهم أقرب إلى منابع التاريخ الإسلامي.
- أنهم لا يتحيرون في المذاهب الفقهية كما يتحيرفيهم من ليس له علم بالشريعة ويظن أنه اختلاف عقدي وأن هذه هي الفرق التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم. وأما طالب العلم الشرعي لا يعتبراختلافهم إلا مجرد اختلاف في فهم النصوص لا يضر بالدين.
- أنهم يؤمنون بالوحدة أكثر من غيرهم، وهذا هو الغالب فيهم لما يتلقونه من تعاليم الإسلام التى تنادي لوحدة المسلمين جميعا، فالقبلية والعنصرية والإقليمية أقل انتشارا فيهم من غيرهم.
- يتحلون بالأمانة، وهذه الميزة مما يشهده المجتمع الصومالي، فالناس يأتمنون طالب العلم الشرعي بأموالهم أكثر من غيرهم كما في المؤسسات الإغاثية والجمعيات والشركات، والبنوك.
وهناك ميزات كثيرة ذكرناها على سبيل التمثيل لا الحصر، وأريد أن أسلّط الضوء – ردا على من يشيرون إلى تعلم الشريعة بالرجعية والتخلف – على أن التخلف المذكورليس في تعلم الشريعة الإسلامية بل هي في متعلميها، فلا يجوز أن نظن أنه حاصل في هذا العلم كما لا يجوز اطلاق التخلف في علم الهندسة إذا كان هناك مهندسون لا يخترعون شيئا ولا يتطورون في مجالهم، وكذلك في الطب إذا كان هناك أطبّاء غير أكفاء لا يجوز وصف الطبّ بالتخلف. فالتخلف حاصل في هؤلاء الأشخاص ليس في علومهم تحديدا.
وختاما أشير إلى العلاج والحل لتلك الأسباب المؤدية إلى تخلف طالب العلم الشرعي عن غيره في نقطتين:
الأولى والأهم هي أن يقوّي طالب العلم الشرعي نقاط ضعفه، فمثلا إذا كان لا يعرف اللغة الإنجليزية ويشعر بالإحراج من جهله بها فليتعلمها بدل أن يجلس في مكانه ويعدم ثقته بعلمه، وكذلك إذا كان لا يعرف كيفية استخدام الكمبيوتر فليتعلمها بسرعة، فبعدما يقوي ذلك الطالب ما ينقصه من تلك المجالات سيصبح واثقا من نفسه وتكون له الميزة على غيره.
ثانيا: القراء في سيرة العلماء الذين جمعوا بين العلم الشرعي والمجالات الأخرى، ومن هنا يدرك أنه من الممكن أن يصبح طالب العلم الشرعي رئيسا لدولة من خلال قراءته لسيرة عمر بن عبد العزيز وغيره، وكذلك بينه وبين التجارة من خلال قراءته لسيرة عبدالله بن المبارك وأبي حنيفة، والأمثلة كثيرة. وذلك تحفيزا له إلى أن يطمح إلى قيادة الأمة وإخراجها من الضعف في المجال الذي يحسنه.” قيمة كل امرئ ما يُحْسن”.
وأخيراً ليس آخراً نتمنى أن نرى في الساحات طالب علم شرعي طبيب، أومهندس، أوعسكري، أواقتصادي، أوسياسي، أوناشط اجتماعي لا يخضع لأفكار مُجتمعه السلبية، ويرى نفسه عزيزا قويا بمبادئه.