مقدمة:
هذا المقال قد يثير حماس فئتين رئيسيتين، تنتميان لمكونات البلدين “الصومال” و”إثيوبيا”، ولكلا الفئتين دوافعها العاطفية والمصلحية، التي معها لا ترى حجم الدمار الناتج عن الخطاب الغوغائي، الذي لا يمكن له أن ينتعش سوى في أجواء “الحنق”، والرغبة في التدمير، تدمير الآخر وتدمير من يقرع ناقوس الوعي، ذلك الوعي الذي بدونه لن تكتمل هويتنا الصومالية المنقسمة في ظل الكراهية الداخلية الذاتية، جاعلة إيّانا ـ نحن الصوماليين ـ محض عبرة حينًا، ومحطّ تندّرٍ أحايين أخرى، رغم أن الكثير من الشعوب، ابتداءًا من بحر الصين شرقًا إلى مجاهل الأمازون غربًا، ومن أدغال الكونغو جنوبًا إلى جبال القوقاز شمالًا، خاضت ولازالت تخوض غمار ما مررنا ونمر به، لكن الفارق هو أنّه آن الأوان ـ لنا نحن ـ لأن نستيقظ، وأن نأخذ زمام المبادرة لنخرج من حالة “الجرح المتقيّح” إلى مرحلة الإلتئام والشفاء، خاصة وأن الطريق إلى التعافي والنقاهة لازال ظلًا حائلًا خلف بصيص النور الذي بدأ يبزغ في آخر النفق.. بدأ المشوار بعون الله!
البلد الشقيق:
حين نتحدث عن الصومال “الدولة” وإثيوبيا “الدولة” فإننا نتكلم عن كيانين قررت القيادة السياسية في أحدهما ـ على الأقل ـ أو كليهما معًا، أن بقاء البلد الآخر خطر على بقائه، لذا سيكون مهمًا أن نوضّح أنني لا أتكلم عن “الكيانين السياسيين”، المصممين بصورة تسهّل تحميل “الجموع” شحنات الكراهية والتخوّف وعدم الثقة، لكنني حين أتحدث عن البلدين، فإنني أعني “الوطنين”، أي الأرض التي تحوي “البشر” الذين يجمعهم من السمات والروابط والعلاقات، ما سبق الملكية المتوسّعة في “هضبة الحبشة”، وهي بالتالي أقدم وأعرق من كيان الجمهورية الصومالية التي لازال معاصروا قيامه أحياء يُرزقون.
وعليه فإنّه من المهم أن نختصر على “الجهلة” مادة التهجم والكلام الغاضب، بتبيان أن مدار الحديث هو الشعبان، الذان يصدف أن أحدهما يحمل صفة الانتماء لـ”الكيان الصومالي” أو”الكيان الإثيوبي”، دون تفريط بأهمّية أن يصلح الصوماليون أوضاعهم فيما بينهم ، ودون إفراط في تجاهل حقيقة استفادة الطبقة الحاكمة في الكيان الإثيوبي من الوضع المزري الذي خلقه الصوماليون في بلادهم بأنفسهم وضد أنفسهم منذ1991 ـ الذي أظلتنا ذكراه ـ في سيل من الأخطاء والخطايا، وحتى يومنا هذا!
الشعوب الإثيوبية الشقيقة:
ينتمي الصوماليون لمجموعة بشرية، ذات سمات ثقافية وجينية مميزة، مركزها أرض مستمرة ممتدة من بحيرة “توركانا” في كينيا حتى ساحل البحر الأحمر في جنوب مصر، شاملة كل إقليم الصومال الطبيعي “الأجزءا الخمسة” وأكثر من ثلثي مساحة إثيوبيا، والشمال الكيني، بامتداد متقطع إلى الشمال التنزاني، تلك المجموعة البشرية المميزة ثقافيًا وجينيًا هي المجموعة الكوشيتية، وقد تكون القوميات القاطنة في القرن الإفريقي “إثيوبيا” و”الصومال” و”كينيا” و”إرتريا” شاملة “الشرق السوداني”، هي الممثل الرئيسي لهذا المكوّن البشري القديم في تلك البقعة، وتأتي قوميتا الـ”أورومو” والـ”صومال” على رأس قائمة الشعوب تلك من حيث عديدها، مترادفة مع قومية الـ”عفر” وأشقائهم الـ”ساهو” وقومية الـ”بجا”.
والحال كذلك، فإن معظم المكوّن السكاني في إثيوبيا، يندرج تحت العنصر الكوشيتي، من الـ”أورومو” والـ”صومال” والـ”عفر” وعناصر أخرى “كوشيتية” و”أوموتية” شقيقة لها، بما يجعل النسبة العظمى من السكّان ذات جذور عرقية وجينية وثقافية متقاربة إن لم تكن متماثلة، على خلاف الخطاب “الغوغائي” ولا أقول “الشعبوي” الذي عبره تمّ إشباع الطرفين منه، والطرفان هما “العنصر الصومالي” والعناصر الأخرى خارج النطاق الصومالي، أي أن العنصر الصومالي ليس بالدخيل على المنطقة كما يصوّره الآخر، ولا العناصر غير الصومالية أجنبية أو مفارقة جينيًا وثقافيًا للمكوّن البشري العام والرئيسي الذي تتكون منه قوميات القرن الإفريقي وأعراقه، وحتى العناصر السامية “الحبشية”، تعود من حيث تركيبها العرقي في معظمها لذات المكوّن الكوشيتي، الذي تبنّى الثقافة السامية، خاصة مع صعود نجم مملكة “أكسوم/الحبشة” في القرن الخامس قبل الميلاد، بعد تدهور مملكة “كوش” في إقليم النوبة بالشمال السوداني.
المحصلة:
إن من المهم إدراك أن العقلية العدائية التي كل إرثها الأحقاد، تراثًا يحمله الجيل بعد الجيل، عقلية “نمطية” ممجوجة، لو كانت ذات خصلة خير واحدة، لجعلت الصوماليين في انغماسهم فيها، يحققون اكتشافات خارج مجرتنا، لكن الإنسان الراغب في البحث عن الحكمة واقتناصها، يرى في تلك العقلية تكبيلًا له، وإسعادًا لأعدائه عبر تبرعه الطوعي بخلق مكونات الفشل المحقق الذي يقبع فيه.
وعليه فإن هذا المقال، الذي لن يعجب الكثيرين، ممن فشلوا في البحث بأنفسهم عن دواعيه، لتفهمها وإدراك النَّفَسِ الإيجابي الذي تحمله، في سبيل تقليل مصادر التشويش على العقل الجمعي الصومالي، يهدف ـ أي المقال ـ لإنفاق الجهد في ما هو بنّاء، وتجنّب مصادر “القلق” غير المجدي، وجلب الاستقرار النفسي والذهني لجموع الشعب الصومالي والقومية الصومالية، ليمكننا فهم الواقع الذي بدأ يتشكّل على الأرض في القرن الإفريقي، ومحاولة ليس فقط لتجنّب سلبياته علينا، بل والقيام بأي جهد قد يؤدي إلى تقليل تبعات ما يحصل اليوم على الأرض، وما قد يجلبه في المستقبل على “أشقائنا” في إثيوبيا، سواءًا الشعوب التي بيننا وبينها رابط دموي-عرقي أو لغوي وديني، أو تلك التي اختبرت شجاعة المقاتل الصومالي وبأسه في حروب امتدت على مدى مئات السنين، ولا هدف من ذلك سوى صالحنا الذي سيتأثر بتضرر من هم بجوارنا وارتبطت حياة فئات كبيرة منا بهم بصورة يومية أو موسمية.
دعوة لمقاربة صحيحة:
إن نظم الحكم في إثيوبيا، على مدى فترة طويلة من الزمن، اعتمدت سياسات عنصرية، مبنية على الإقطاعية، بصورة أدّت إلى تشكّل أنماط حكم لاحقة، تعتمد في وجودها واستمراها على تهميش قطاعات واسعة من المجتمع، وعلى رأسها المكونات الكوشيتية، سواءًا المسالمة كالـ”أرومو” أو المحاربة كـ”الصوماليين” والـ”عفر”، لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال، الإيغال في الخطاب العدائي لكل ما هو ضمن “العباءة” الإثيوبية، سواءًا كان مضطهدًا ومتضررًا كالعناصر الأقرب للصوماليين، أو كانت من العناصر التي عاشت مجدها أبّان تسنّم أفراد ومجموعات منها قمة هرم السلطة كـالـ”أمهرا” والـ”تجراي”، فلا مبرر للخطاب الكاره للأفراد والمجتمعات، بل يجب على المتظلّم أن يتورّع عن إيذاء “الجميع” لأن البعض قد أنزل عليه ظلمه وغطرسته، يقول تعالى: “لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) النساء، لذا فلنتأدّب مع السميع العليم ولنعدل في خطابنا، وليجد منّا إخوتنا الذين تجمعنا معهم روابط يعز الحصر عنها، وليجدوا لين قول وحسن تعامل كما يليق بمن يريد الخير لنفسه ولا يرضى الظلم والأذى لغيره.