إبراهيم حاشي محمود (3)
وفور وصول الشيخ إبراهيم محمود إلى أرض الوطن ، استلم وظيفة عمل في المركز الثقافي الصومالي علماً أنّ فضيلته وقّع عقد التعهد للعمل وهو في القاهر مع المؤتمر الإسلامي في المركز الثقافي بالصومال لمدة خمس سنوات، وكان ذلك في يوم 24 أكتوبر عام 1957م، والجذير بالذكر أن مدير المركز في ذلك الوقت كان السيد عمر عوض الذي عينه المرحوم الشهيد محمد كمال الدين صلاح مندوب مصر في المحلس الاستشاري الدولي بالصومال خلفاً عن السيد عبد الصبور مرزوق صاحب كتاب ” ثائر من الصومال – الملا محمد بن عبدالله حسن”.
حب لم يكلل بالنجاح:
على الرغم من أن الشيخ إبراهيم حاشي محمود استقر في العاصمة مقديشو بعيد رجوعه من القاهرة مع وظيفة شريفة إلا أنّ نفسه لم تنسى محنة الحبّ التي أصابت في نفسه وهزت كيانه، بل وزلزلت على عاطفته وهمومه، وقد اعتبر الشيخ هذا الأمر مشكلة من مشكلات مسييرة حياته،حيث أصابهذاك الحب وهو في مصر دون أن يعرفه أحد في علاقته الشريفة ذات الغرض الشريف والعفيف، وأنها عبارة عن علاقة حب وودّ نشأت بينه وبين من أحبها وأحبته، بل واتفقا على الزواج، ولكن هذا الاتفاق لم يكلل بنجاح لأسباب لم يذكر الشيخ في مذكراته بل اكتفى بأنّها كانت لأسباب خارجة عن إرادتهما، وليته ذكر تلك الأسباب حتى نُعدّه في اعداد الشيوخ العاشقين الصابرين.
كفاحه في نصرة أمته:
رغم هذا الجرح العميق الذيأصيب بصاحبنا- رحمها الله – فلم يكن ذلك له حجر عثرة في سبيل مشاركة الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية لأمته، ولاسيما أنّه كان يحسّ أنّ الذلّ والهوان الذي يعيشه الوطن تحت الاستعمار الأوروبي، ولاحظ في أول الوهلة بأنّ البلاد متأخرة في كل شيئ ، وما يجرى في البلاد يكون وفق رغبات المستعمر فلا أحد يعترض عليهم في شيئ ولا أحد يدعوا إلي الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
وقبل أن يثور الشيخ ثورته ضد الاستعمار، قيّم الوضع الذي يعيش فيه الصومال في تلك الفترة ، ومدى خطورة الموقف، وراى أنّ الاستعمار متمكن في كل شيئ، ورغم هذا فلا يرى أحد يذكر كلمة الاستعمار الذي هو مشكلة المشاكل في العالم، الاستعمار الذي قسم الصومال إلى خمسة أقسام تفصلها حدود اصطناعية. وكان في مقديشو قناصل للدول الاستعمارية: بريطانيا وفرنسا، والحبشة، والولايات المتحدة ، وكان يرى أنّ هذه القناصل عبارة عن حكومات داخل حكومة لكل منها أدنابها والمدافعون عنها الذين يروجون الدعاية لصالحها– على حد قوله … فما أشبه الليلة بالبارحة.. رحم الله شيخنا الفاضل ، وكأنّه يصور الوضع الصومالي الحالي. وأكثر من ذلك فقد استغرب الشيخ إبراهيم بأنّ مجموعة من أمتنا كانت راغبة في الحبشة،وذكر ذلك بكتابه كفاح الحياة حيث قال: ” … بل كانت هناك أحزاب سياسية تدعو إلى الاتحاد الفيدرالي مع الحبشة : تلك الدولة الإفريقية التي تستعمر أكبر وأخصب منطقة من المناطق الصومالية ، وهي منطقتي أجادين وهرر الصوماليتين، وتدعي بأنّها مناطق أثيوبية ، وليست صومالية، أي وقاحة أشنع من هذا ؟ ولا تكتفي بهذا بل تريد ابتلاع الصومال كله، وسلب حريته، وضمه إلى تاجها اللعين، تماماً كما فعلت باريتريا بالأمس القريب. ..” وقال فضيلته مستدركاً ومقيماً الوضع السياسي للبلاد ” وكان لهذه الأحزاب جرائد تنطق بلسانها، وتهاجم القوميين الصوماليين وتصفهم بأنهم رجعيون انفصاليون” .
ومما كان يقلق الشيخ ضياع الوطن وعدم مراقبة الحكومة الداخلية التي كانت تمهيداً للاستقلال المرتقب، واستغرببتصرفات الشركات الأجنبية وحرياتها المطلقة، وقد ضرب مثلاً شركات أمريكية ، وقال: ” وكانت أمريكا صديقة لدرجة أن شركاتها ومؤسساتها لم تكن تخضع لأي رقيب.. شركاتها البترولية تعمل في أنحاء مختلفة من البلاد للبحث عن البترول، والمعادن، طائرات هذه الشركات تذهب في كل مكان، بواخرها ترسو في أي مكان من السواحل الصومالية، وتفرغ شحناتها فيها دون أن تدخل الجمارك بدعوى أنها تحمل معدات ، والآلات اللزمةلشركات البترول. “. وقد شكك الشيخ إبراهيم مدى مصداقية هذه الشركات، بحيث ربما يقومون بأعمال مشبوهة كإلقاء النفايات في البلاد، فترى صناديق كبيرة مقفلة لا يعلم أحد من رجال الجمارك ما فيها ، و لا يسمح لأحد من الاقتراب إليها تنقل إلى مناطق نائية من البلاد… ترى ماذا فيها؟ ومن يدري لعل فيها قنابل ذرية أو هيدروجينية. هذا ما كان يقال عن هذه الشركات.. وانتقذ الشيخ بعض أخلاقيات هؤلاء الأجانب كالقنصل الفرنسي وقال: ” وكان القنصل الفرنسي الطويل الضخم يطوف بشوارع مقديشو ليل نهار حاملا بسيارته مجموعة من الفتيات الصوماليات .. دور السينما في مقديشو لا تعرض إلا الأفلام الخليعة ، والأفلام التي تصور جرائم السرقة ، والقتل ، وكلها من إنتاج الشركات الإيطالية والأمريكية والهندية…”، وقد شبه وضع الصومال بجو صاخب ثائر مثل ما كان حال جمهورية مصر في أيام عزل ملك فاروق ، وإعلان الجمهورية.
فهذه الأوضاع الر ذيئة لم تقتل همّ الشيخ وحماسته الجياشة، بل ثار الشيخ ثورته ولكن بحكمة وعقلانية، مبتدئاً بشرح قضيته وما يريد عرضه على الجماهير، في المجالس العامة والخاصة، وفي قاعات المحاضرات الكبرى بالمحافل الاجتماعية كالمركز الثقافي للمؤتمر الإسلامي بمقديشو، ولا غرو في ذلك لأنّه كان متأثراً ما شاهده في مصر، ثم تحول نشاطه إلى المقروء عبر مقالات ينشرها في الجرائد المحلية والإقليمية. ومن بين العناوين التي نشرها عنوان ” مشكلة الحدود قال فيها: ” وإذا كانت هناك معاهدات بين الحبشة والانجليز، أو بين الحبشة وإيطاليا حول الحدود فلم تكن تتم الا في أديس أببا، أو لندن ، أو روما دون علم الوطنيين الصوماليين..” كما كتب حول مشروع الجنسية الذي كان يناقش في ذلك الوقت أمام الجمعية التشريعية، وكان مشروعاً يرمي إلى وضع حدّ لتفرق الصوماليين في المناطق الأخرى إلى منطقة الوصاية. وقد عدل المشروع بعد نشر المقال إلى اعتبار جميع الصوماليين الذين يدخلون المنطقة مواطنين صوماليين إذا وجدت منهم شروط معينة.وسلّط الشيخ قلمه على بعض تصرفات الأجانب في البلاد عندما وصف القنصل الأمريكي والقنصل الحبشي في مقديشو بأنهما مصدراً للمؤامرات والدسائس، والاغتيالات في البلاد مما حمل القنصل الحبشي على الاحتجاج لدى الحكومة الصومالية ، ولدى مندوب مصر لدى المجلس الاستشاري ضد الشيخ ، وضد المقالات المعادية التي يكتبها في الجريدة.
وأعلن الشيخ حرباً شديداً على الصحف والجرائد التي تخدم هدف المستعمر أو على أؤلئك الذين لا يهتمون بمصالح البلاد والعباد، وسماها الصحف السوداء، وقال،: ” إنني لا أدري ما إذا كانت هذه الصحف صحفاً صوماليةً تخضع لاشراف وتوجيه مواطنين صومالين يهتمون بأمر بلادهم أم أنها صحف اجنبية أسدت في تحريرها إلى أشخاص صوماليين يكون نصيبهم الوحيد فيها ما يعود عليهم منها من مال أو مركز أدبي بوضع أسمائهم فيها..