الكتابة عن المشكلة الصومالية المستعصية، ومحاولة تشخيصها، وتفكيكها، والسعي لحل ألغازها؛ أمر مكلف، وشاق، بحيث تجد أنك أمام أمة اجتمعت فيها المتناقضات، فبينما تجد أنها أمة تمتلك جميع أسباب التآلف والتجانس، الداعي إلى العيش بوئام وانسجام، تجدها تعاني من أفتك أمراض البشرية وأخطرها التي تودي بالمجتمعات إلى التمزق والتشرذم، والتحارب والدخول في دوامة من الحروب اللامنتهية، حتى تقولَ في نفسك: أنه لا يربط بينها رباط، ولا تجمعها وشيجة!!.
يذهب كل من تصدى للحديث عن الأزمة الصومالية، وأسبابها التي ساهمت في إطالة أمد الصراع، وتسعيره من جديد، وبثوب وممثلين جُدد كلما توجهتْ نحو الانطفاء والإختفاء، وما هو البنزين المبطن المخفي الذي يُضخ في النار فتزداد اشتعالا؟ ومن ذاك الشيطان اللعين الذي لا تراه العين والذي يقوم بعملية صبَّ البنزين؟، يذهب كل من تصدى للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها المتعلقة بالقضية الصومالية إلى وجهة يحسبها الأصوب والأدق، ويأتي بالشواهد والأدلة ليدعم وجهة نظره، فمنهم من يذهب إلى البعد الاقتصادي، فيتحدث عن المجاعة والجفاف حتى أصبح اسم الصومال لديهم رمزا للمجاعة والفقر المدقع!! بحيث يقولون: أن هذا الشعب جائع لا يهمه إلا ما يسد به رمقه، فلو وجد هذا لانطمست آثار الآزمة، وتلاشت من تلقاء نفسها، وستنتهي المشكلة وكفى!! المشكلة مشكلة فقدان الرغيف والخبز!!
بينما يذهب آخرون إلى الحديث عن الفشل الذريع الذي وقعت فيه الحكومات المتعاقبة منذ الخروج من الاستعمار المباشر إلى الآن في تذويب العلاقات، والسعي لخلق جو من الإخاء المنسجم الذي يمكَّن للمجتمع أن يعيش فيه بسلام وأمان، في الوقت الذي يذهب آخرون إلى البعد الخارجي ودوره في إذكاء النعرات القبلية، والدور المشؤوم الذي لعبته القوى العظمى في سبيل إسقاط الحكومة المركزية بالتعاون مع المليشيات وأمراء الحرب، والضباط الغاضبين المستائين من سياسة زياد بري وحزبه الحاكم، فيلقون اللوم كله على “قوى الشر والظلم” أمريكا وحلفاءها، ومن لفَّ لفَّهم من الصومالين، الذين أصبحوا أداة طيعة في يد العدوين اللدودين للأمة الصومالية عبر التاريخ “إثيوبيا وكينا” وإن كانت كينيا أضعف! فصاروا اللسان الذي ينطق به العدو فيسحر بالشعب، وعينه التي يبصرها بعورات الأمة، ورجله التي يمشيها بها إلى أهدافه، ويده التي يبطش ويقمع بمناوئيه، وأذنه التي يسمع بها الأخبار!!
وتجد كذلك من يؤمن بأن المشكلة الصومالية، وما آلت إليه الأمور من التأزم والتعقيد الشديد، ما هي إلا نتيجة حتمية لابتعاد الأمة عن المنهج الإلهي، وتنحية شريعة الرحمن عن الحياة العامة، وأن ما حدث لا يعدل معشار ما جنينا واقترفته أيدينا من الذنوب، وأنهم يتيهون ولا يتمكنون من حلحلة أزمتهم إلا بالعودة والتوبة إلى الله، وأنه سبحانه لا يرفع عنهم البلاء حتى يفيؤوا إلى شرعه، وأن هذه الأمة أمة أعزها الله بالإسلام ومهما ابتغت العزة في غير الإسلام أذلها وأهانها، كما قال فاروق الأمة، وأن الطريق الوحيد للخروج من هذا النفق المظلم، وإزاحة البؤس والشقاء المرسوم على جباهها، لتستنشق هواء الأمن والاستقرار، والنسيم المنعش الذي يتبعهما، لا بد من التأسي والاقتداء بقوم يونس عليه السلام؛ فإنهم لما ثابوا وأنابوا، ورجعوا على أنفسهم، وراحوا يبحثون عن النبي الكريم، كشف المولى عنهم عذاب الخزي في الدنيا “فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخري في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين” متعهم وأراحهم من الضنك والشقاء المضروب على المعرضين عن الذكر الإلهي “ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ”
وفي الاتجاه الآخر نجد من يختزل المشكلة بالقبلية وإفرازاتها التي تسري في الدم الصومالي، بحيث يَنْدُر من ينجو من هذا الداء العضال، والسُوس الذي ينخر في عظام المجتمع فيحولها إلى رميم مفتت، والإنسان الصومالي عندما يسمع هيعة العصبية، والنداء المعروف “yaa tol aheey” يا قومي؛ ينطلق كالقذيفة ملبيا، حتى قالوا بالمثل: fiqi tolkii kama janna tago بمعنى أن الفقيه لا يدخل الجنة دون باقي عشيرته، كما قال الشاعر العربي الجاهلي:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد!!
ويستشهد أصحاب هذا الاتجاه كثيرا بأن رجلا أصابه مكروه إبان الحروب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس، فصاح: وا إسلاماه.. وا إسلاماه… مرارا ثم وا صومالاه .. وا صومالاه .. مرار وتكرارا ، ولكن بدون جدوى فلا مجيب ولا مغيث، حتى قال أخيرا: يا بني فلان.. ونادى بقبيلته فانطلق أحدهم من بيته مخاطرا نفسه ليبلي هذا المستغيث!!
ولكننا نجد عند التدقيق والنظر بعين فاحصة إلى كل هذه الأسباب وغيرها القريبة منها، نجد أنها لا تتعارض بل تتكامل لتوضح الصورة وتقربها أكثر، وهي بمثابة شرح وأمثلة لما يعانيه الشعب المنكوب، فالأمة تعاني من الثالوث القاتل؛ أمراض ثلاثة فتاكة أقعدتها وأخرتها عن لحاق ركب الحياة، وهذه الأمراض هي:
أولا: الجهل: لقد أطبق الجهل واستحكم على الأمة، وتمكَّن منها، جهل بالدين والحياة معا، مرة أخرى الجهل الذي نتحدث عنه ليس جهل عن الدين فقط بل معه جهل عن الحياة وقوانينها أيضا، فقد جهلت الأمة حتى عن أساسيات الملة، بحيث تحولت كلمة “لا إله إلا الله” مجرد لفظة تقال في اللسان فقط من غير أن يكون لها مدلولات واقعية، ومقتضيات يجب على القائل أن يمتثلها وتظهر في حياته اليومية، وأصبحت الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وحج وزكاة – إن دُفعت – مجرد عادة وحركات آلية أكثر من كونها عبادة؛ التي عرفها الداعية الشيخ محمد راتب النابلسي بأنها: (طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية، تفضي إلي سعادة أبدية)، وهكذا باقي أمور الدين جهل مطبق!!
وبالتوازي مع هذا الجهل المستشري أصابها جهل آخر عن الحياة وقوانينها التي وضع المولى سبحانه للاستفادة من الكون وتسخيره لصالح الإنسان، وعمارة الأرض، فأبطلت الأمة حكمة وجودها المتمثلة في عمارة الأرض والاستفادة مما أودع الله فيها من النعم، وفق ضوابط رسمها في كتابه العزيز، بحيث تكون هذه الاستفادة تحقيقا للهدف الأساسي لوجود الإنسان في الكون: عبادة الله والانقياد والخضوع له سبحانه.
فبالعلم ترتقي وتتقدم الأمم، وبالعلم تتحقق السعادة والرفاهية المطلوبة، ولأهمية العلم نجد أن الإسلام أولاه عناية ورعاية فائقة لا مثيل لها في الأديان والأيدلوجيات الأخرى، بحيث يرى المتأمل للآيات الأولى التي افتتح الله بها نزولَ القرآن، أنها تدعو إلى القراءة التي هي أداة من أدوات المعرفة، وهذا يشي إلى “أن الإسلام في جوهره وطبيعته ثورة ضد الجهل والظلامية” كما عبر الدكتور راغب السرجاني .
ولا غرو ولا عجب إذًا من هذه الحالة المزرية التي أقضت مضاجع المشفقين على الأمة؛ لأن أمة تجهل عن دينها، وتجعله وراء ظهرها، ثم تجهل عن الحياة ولا تمتلك الطموح القائد إلى امتلاك روح المبادرة والسعي إلى اكتشاف قوى الكون لتسخيره والاستفادة منه، حُقَّ لأمة هذا حالها أن تصل ما وصلت إليه من التشرذم والعيش في متاهات الحياة بلا وجهة، أينما تُمَيِّلها الريح تمل!! وتستجيب لكل ناعق مهين، حتى وإن دعاها إلى حتفها وهلاكها.
وينفذ عليها مؤامرات أعدائها بكل سهولة ويسر، لأنها هي التي تخلت عن جهاز مناعتها المتمثل بالعلم الشرعي والحياتي، ولم تستعد لأعدائها حسب طاقتها ثم ترتكن إلى ركن الله الركين، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم”
ثانيا: البطالة: إنسان جاهل ، وازعه الديني ضعيف لا يقوى على المقاومة، ولا يعرف عن الحياة وكيفية التعامل مع هذا الكون المأنوس شيئا، ولا يدري ما السبيل إليه للتعرف على أسراره، وسبر أغواره، لاستخراج خيراته المكنوزة فيه، وما أكثر خيرات وطننا، فكم نملك من ثروات متعددة: حيوانية وزراعية وسمكية ومعدنية وحرارية، ثم نموت جوعا، وأبناؤنا لا يجدون وظائف، عاطلون عن العمل، لايستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا، والطريف أنه بإمكاننا أن نزرع أرضنا طيلة مدار السنة، بينما نتكفف ونطلب الإغاثة من الأمم التي لا تستطيع الزراعة إلا في ثلاثة أشهر فقط كل السنة!! هوان وضعف وخور وعجز لا مبرر له.
البطالة تجعل من الإنسان يشعر بالفراغ والحرمان، وعدم الأمان، وربما قاد تفكيره إلى الجرائم، والهروب من الواقع بالمخدرات، أو ركوب المخاطر والتهريب – كما يقولون – إلى الدول الغربية عبر البحر والصحراء، وهناك ينتظرهم الموت المحقق، فإما الموت غرقا أو في الصحراء القاحلة، وإما الموت البطيء؛ وذلك بالموت الإنساني والتحلل الأخلاقي والديني، والذوبان بالغرب كما يذوب الملح في الماء.
ومن لم يستطع الهجرة يعيش تائها ضائعا بلا حيلة ولا عمل في المخيمات والملاجئ في دول الجوار، التي فتحت للنازحين أوكارا لتركيعهم وإذلالهم ونزع كرامتهم، وقتل إنسانيتهم، بإغراقهم بسيل من الهيئات التبشيرية والتنصيرية، والمدراس المتخصصة لمسخ هوية الناشئة، ليخرجوا للحياة مسخا إمعة، همهم الدرهم والدينار، والمطعم الشهي والمركب السني، لا يسعى إلا لإشباع بطنه وفرجه، فمن وفَّر له ذلك فهو القائد المظفر، والمخلص الملهم، الذي يسبح بحمده بكرة وعشيا، وإلا فهو اللعين بن اللعين، المارد المغضوب عليه!!
ومن بقي في الوطن استفاده الطائشون الحمقى، المصابون بقسوة القلب، وجنون الرياسة والجاه، المتعطشون إلى كرسي الحكم، ليكونوا بدمائهم السلم والجسر إلى مآربهم الجنونية الشيطانية، فكم من طاقات هُدرت، ودماء أُسيلت، وأشلاء تَقطعت إبان الحروب الأهلية الطاحنة، وكم كانت هذه الدماء والطاقات غالية وعزيزة علينا، ولكن وضعت في غير محلها بفعل فاعل، مستفيدا من جهل الشباب وسذاجتهم، وكذلك مستفيدا من بطالتهم، فأوردوهم المهالك وأذاقوهم الأمرَّين.
وكم من شباب كان بالإمكان أن يسهموا في إعادة مجد الأمة، ولكنهم اليوم أحد معاول الهدم التي في يد العدو لتقطيع أشجار الوطن، ليحول أرض الوطن إلى صحراء جرداء قاحلة!! فيعملون مع الأعداء عيونا ومخبرين، أو جنودا يقاتلون جنبا إلى جنب مع المحتل!! حملهم الجهل والسفاهة واللهث وراء لقمة العيش إلى ركوب هذه الطامة العظمى والفاجعة الكبرى.
ثالثا: القبلية: وما أدراك ما القبلية! داء عضال، ومرض فتاك، ومقت ووبال، شتت شملنا، وفرق كلمتنا، وأزال دولتنا، وجعلنا أضحوكة العالم.
القبلية متجذرة في عقلية كل صومالي، إلا من رحم الله، بحيث نشاهد طلاب علم، ومثقفين كان الأمل منهم أن يتجردوا منها ويكونوا مثلا عاليا يحتذى بهم في التجرد والإخلاص للأمة وإعلاء مصالحها فوق المصالح القبلية الضيقة، نشاهدهم من أبعد الناس عن التجرد، ويستميتون في الدفاع عن قبيلتهم حتى وإن كانت على باطل، ولك أن تتصور إذن حال العامة والجهال ورجل الشارع إذا كان هذا حال المثقفين.
وأتساءل ما الذي جعل الإنسان الصومالي يفكر بهذه الطريقة؟
هناك تحليل أراه صائبا بعض الشيء وقريبا إلى الواقع والتاريخ، وهو أنه إذا رجعنا إلى ذاكرة التاريخ وسألناها عن طبيعة الشخصية الصومالية نجدها كالتالي:
شخص بدوي يعيش بين قومة وعشيرته وأبناء عمومته، ولا يعرف عن القبائل الأخرى المجاورة إلا عن الأيام والغارات المتبادلة بينهم، فهو يفكر بعقلية قاصرة لا تعرف إلا هذا المحيط المصغر، الذي لا تحده حدود، بحيث يأوي ويسكن ويسيح في الأرض أينما وجد الكلأ والمرعى والماء لماشيته، ولا يعرف قيود وضوابط وقوانين تقيد حريته، إلا النزر اليسير المتمثل في العقود المبرمة مع بعض القبائل المجاورة المعرفوف بالحير (xeer) إما xeer xun وإما xeer san.
فهو يفكر بطريقة هذا إبلنا وهذه ماشيتنا، وهذا بئرنا، وهذه مزرعتنا – عند البعض – لا يعرف ولم يكن يسمع المال العام والمصلحة العامة!! ثم لما دخل المدن والحواضر، دخلها متسلحا بنفس العقلية القبلية، فتحول الأمر إلى أن هذا الوزير وزيرنا، وهذا النائب في البرلمان هو نائبنا، وهذا للواء في القوات المسلحة هو لواؤنا، وهلم جرا.
هكذا أصبحت الوزارات ملكا لقبائل وعشائر، وبطون وأفخاذ، والغريب أن الوزير والنائب يعتقد أنه وزير ونائب القبيلة، وليس وزيرا ولا نائبا للحكومة التي يعمل فيها!!
وهكذا تداعت علينا الأمراض الثلاثة: الجهل والبطالة والقبلية، فقلما ينجو منهم أحد، ومن نجا من واحد فلا بد أن يقع في شرك آخر – إلا من رحم الله.