في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الصومال، حقبة التشرذم والتفرق ، زمن الضياع والهوان، زمن ارتفعت فيه الكلمات فوق السحاب، وفقدت معانيها ودلالاتها، وانقلبت فيها الموزاين، فأصبح الحق باطلا والباطل حقا (وأبيض ناصع صار ليلا ومظلم قاتم أضحى نهارا)
في زمن أشبه ما يكون أو أسوأ من الفترة التي عاش فيها الشاعر الأندلسي ابن شرف حيث كانت من أسوأ فترات الضعف والهوان فى تاريخ الأندلس.
وفي ظلّ هذه الحالة المأزومة التي نعيش فيها ،نتذكر قوله متحسرا على حال بلاده في عهد ملوك الطوائف حيث قال :
ومما يزهدنى فى أرض أندلس قول معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة فى غير موضعها كالهرّ يحكى انتفاخاً صولة الأسد
فما هي أوجه الشبه ؟
فلنبدأ الحكاية من البداية ..
في عام 2004م ، وتحديدا في منطقة امبجاتي في كينيا عقد مؤتمر للمصالحة الصومالية يعتبر الأطول في تاريخ المؤتمرات الحديثة حيث استمرّ قرابة سنتين ، حضر فيها زعماء الحرب، وسماسرة الصراعات مع قلة من النخب المثقفة، وثلة من شيوخ العشائر ورعتها دول الجوار من اثيوبيا وكينيا، وكان لها الأمر والنهي، فبعد مخاض عسير ..(تمخض الجبل فولد فأرا) .
اختار المجتمعون ( بل اختير لهم ) النظام الفيدرالي للحكم في البلاد، لماذا؟ لأنه البلسم الشافي لكل جروح الأمة .. أو هكذا قيل لهم ، فأصبح الناس بين مؤيد ومعارض ، متفائل بقرب الفرج ومتشائم يرى شرارة الفتنة وحلول النكبة .
فالفيدرالية نظام سياسي يقوم على بناء علاقات تكامل محل علاقات تبعية بين عدة دول يربطها اتحاد مركزي ، على أن يكون هذا الاتحاد مبنيا على أساس الاعتراف بوجود حكومة مركزية لكل الدول الاتحادية، وحكومة ذاتية للولايات أو المقاطعات التي تنقسم إليها الدولة ، ويكون توزيع السلطة بين الحكومات الإقليمية والحكومة المركزية.
ولكن نحن – كعادتنا – اتجهنا بها إلى غير وجهتها ، وطبقناها وفق إجندات مهندسي مشروعها من تفكيك البلاد وإنعاش للنعرات القبلية والحروب الدموية.
فماذا حدث بعد المؤتمر ؟
حدثت بعده أحداث جسام حولت مجرى الأمور وجعلت الصراعات القبلية صراع الأفكار والأيدلوجيات ، فسقط البلد في أتون حروب دامية ذات صبغة عالمية ، يكثر فيه اللاعبون، وتتقاطع فيه المصالح ، فنسي الشعب الحديث في الفيدراليات ومحاسنها ومساوئها وآثارها ونتائجها وكل مالها أو عليها ، وتشمّر لمجاوزة العقبات والنجاة بالنفس والمال .
وبعد عقد من الزمان ، وفي فجاءة!! (بل هكذا خطط لها..من قبيل استراتيجية التأجيل والتدرج )
فتصدرت الفيدرالية الواجهة ، لتعلن بإن تلك الفترة كافية لجس نبض الشعب واختبار عيدانه عودا عودا.
ظهرت هذه المرة … ولكن بصورة فريدة أشبه بالمسرحية الهزلية ، ليس في داخل ربوع الوطن ، بل في منشأ الفكرة الخبيثة (الفيدرالية)!!،حيث يعلن فيها كل مهووس بالحكم انتخابه رئيسا لحكومة ولاية في حفلات صاخبة في فنادق الخمس النجوم ، ترفرف في سمائها أعلام متنوعة، ويحلف الأيمان المغلطة بخدمة البلاد والعباد لما فيهالمصلحة والخير ، حفلات تنفق فيها المبالغ الباهظة مدفوعة من سفارات أجنبية ومنظمات دولية تحت مسمى دعم الديمقراطية والنظام الفيدرالي (الرشيد) !!
فاستفاق الشعب من غيبوبته ، ونظر إلي ما يجري بعين الشك والريبة ، فأصبح كعادته منقسما : بين مؤيد لها بدافع القبلية والطمع ، وبين منكر لعشرات من الحكومات الفيدارلية في ربوع الوطن الواحد، وأحيانا أربع حكومات تتنازع في الإقليم الواحد ، ثم ماذ احدث بعد ذلك ..
ليتها وقفت عند ذاك .. في حدود نيروبي والعواصم الأوربية .. بل انتقلت إلى داخل البلاد… لأن الفرصة مواتية.
فبعد ابتهاج الشعب بانتهاء الفترة الانتقالية وميلاد الحكومة الدائمة ذات السيادة والاستقلالية !! إذا هو يفرض علينا الفيدرالية بحكم الدستور الجديد الذي أكد على فديرالية الحكم ، وسجل فيه ( للشعب الكلمة الفصل في تطبيق الفيدالية أو عدمه )، لكن ….. بدأ السباق المحموم في تطبيق الفيدرالية، وتكوين إدارات فيدرالية قبل الاستفتاء الشعبي ، اختلف فيها سكان كل منطقة، وأحدثت شرخا كبيرا فيما بينهم بسبب المحاصصة القبلية والنزاع في أعضاء البرلمان والوزراء، لا دور فيها للحكومة المركزية إلا المباركة والتهنئة، وإلا.. تقطع لها العلاقات من قبل الحكومات الوليدة، وترفع دعوى ضدها إلى مهندسي المشروع من دول الجوار ومن أوكل لهم هذا الدور من القوى العظمى، ليتمّ التصالح فيما بعد بأنصاف الحلول وقرارات مطاطية تحتمل كل معنى .
فالآن…أصبح في البلاد عشرات الحكومات التي لها الرؤساء( والأيام حبلى !) لا يحكم بعضهم إلا مدينة واحدة أو قرى لا تتجاوز الكيلومترات، يفتعل الأزمات لإثبات الوجود، ويجيد لغة التهديد والوعيد للأقاليم المجاورة والبعيدة عنه في داخل الوطن،ويتشدق بضرورة ترسيم الحدود بينه وبين الإقليم المجاور في البلد.
وفي المقابل ..يقوم برحلات مكوكية إلى العواصم دول الجوار أكثر من سفره إلى عاصمة البلاد، يستثمر كل سانحة لتمجيد ومدح مهندسي المشروع من دول الجوار وارسال برقيات التهانئ والتعازي( أسد عليّ وفي الحروب نعامة ) ، لا يرضى إلا بتصدر اسمه والتغني به في المحافل والتجمعات، يرفض إلا لقب الرئيس، وتسمية إدارته بالحكومة أو الدولة.
حقا.. إنها أسماء مملكة في غير موضعها .
ولكن الأسئلة التي تفرض نفسها هي : هل سينجح هذا المشروع في تقسيم البلاد وانفصال بعضه عن بعض فيصبح لغمة سائغة ؟ وهل سنحتاج إلى بذل النفيس والغالي مرة ثانية لنيل الوحدة والاستقلال؟!!