لهيب الشوق أضناني، وألم الحنين آلمني، وطيف الشجن هاجمني، وأنا متقلب فوق الفراش، فهجرت عن الكرى وعزفت الخلود في أحضان الدعة والراحة ونعومة الفراش ولذة النوم كملدوغ لم يجد الدواء ويتأوه ألما وأسى في القرى النائية الوادعة علي روابي النسيان والإهمال، أو كمريض علي سرير المشافي تنتابه نوبة من السعال القوى وحمى تطرد النوم عن أجفانه بعد منتصف الليل بدقائق.
تباريح العشق تسرى في داخلي كموجات طولية أو ذبذات داخلية، وأبث أنين الوحدة في ساعات الدجي، وأذرف الدموع الغالية نحو التربة الحانية التي تستر رطوبتها قطرات الدموع المنهمرة من مآقي الجفون ومن عيون القلب، ومن ترعات التعلق والإعجاب المنتشرة في داخلي كإنتشار الجداول في المزارع المطلة علي ضفاف نهر شبيللي قرب بلدوين أو أفغوي العريق.
أحلق فوق سماء السهر كنورس شقي في بحر الشمال أو جبال بلقان، أو كفينيق رومي مترع ببذخ الربيع وبسمة الخريف وجود الطبيعة، وألاعب أوهامي الهلامية وآمالي التي تموت غالبا في رحم الغيب دون أن ترى النور، وأضحك بهستيريا عجيبة كمجنون تائه في ظلمات الليل ويعاني من رطوبة الزنزانة في داخل المسحات العقلية، وأغفو علي أهداب الزمن السريع كعمرنا القصير الذي يجري كسرعة الضوء لا كمشية السلحفاة التي نريدها نحن المحبين للحياة وللخلود السرمدي!، وأستريح في الكراسي الخشبية المتناثرة علي رصيف المحطات وحافات المنافي وكانها منتجع سياحي أوحديقة عامة في وسط المدن الجميلة.
في هدأت السحر وعلي وقع الفراق وصدى تهاليل البعاد أعزف أنغام الدموع علي أطلال الذكريات الرقيقة كفراشات السواقي أو كهمسات المحبين في الهزيع الأخير من الليل، وأستأنس قصص العابرين في دروب المعاناة الطويلة، وممن ينشدون الأمل في واحات الحياة المترعة بالغدر والضنا، وفي كهوف المناجاة الندية وقعر الآجام المزركشة بالماضي الفخيم، وأتمعن ضروب الحكاوي الحزينة والنسائم الهامسة في طبلة أذني، والأصوات التي تأتي من سحيق الأسى ومن جبين البسطاء، ومن سحيف الرحى الذي يطحن أحلام البسطاء وانصاف العراة ويرسل رزقهم إلي بطون اثرياء الحرب وأغنياء الصراعات والتشريد والإحتراب بطريقة دراماتيكية غريبة.
زرائب الطيور المهاجرة، وزقزقة العصافير الشجية، وشدو القمرية في الصباح الباكر، والأعشاب المرتعشة بلطف ولين كأنها خصلات شعرك العابثة علي جبينك المصقول في تلك الأمسية التي كنا نترنح طربا وعشقا، والندي الخفيف فوق المروج، وأريج الزهور الفواح في الحقول والبساتين الواقعة علي عين الجمال قربنا مرابعنا، وعبق الورود الحمراء كشفق المغيب وأنت فوق هامة جبل مخروطي الشكل يطل علي خط الإستواء من الناحية الشمالية في بلد أفريقي جميل بقدر ماهو متناقض ومكبّل بمآسي القتال وحبال الفقر وصراع الأديان ومشاكل العرق والإثنيات التي تريد كل واحد منها أن تسلب بقوة حقوق الآخرين وان تستأثر دون الغير السلطة والحكم والإقتصاد، أوكغانية غجرية شقراء تخدم في بلاط الأمراء بأجر زهيد وعمل شاق تحت وطأة الفقر ولدغة العوز وتكشف أسرار وجهها الذي يفوق البدر ألقا وإشراقا للغريب العابر.
والضباب اللطيف الذي يغشى ملامح المدينة بعد يوم ماطر، وأثير الصباح المنعش الذي يبدد شحنات الغضب والنكد بعد الليالي الموحشة، ورقصات الأمواج علي شاطئ البحر الذي يرفع ذوئبتيه الباسم كقدك المليح، يذكرني بجمالكِ الأنثوي الطافح وبشرتكِ السمراء الناعمة وتغنجكِ القاتل وعنادك الأنثوي التقليدي، ويثير كوامن الصبا في أوصالي، مما يفتح نوافذ الحزن وأبواب الشجن والجنون البرئ في داخل نفسي المولعة بضوئك الذي يأتي من وراء المرئيات ومن بين رماد الأزمنة وسديم الحب الهائم..!
أقترب إلي عالمكِ المجهول الذي سياجه اللامبالاة قاتلة، وتصرفات مجنونة تمتزج بالطيبة المطبوعة علي شخصيتك الغامضة، وثرثرة غريبة وكأنك أف إم FM مدينتي التي تمنحنا فقرات إخبارية فقيرة في طرحها وعائمة في معانيها ومفكّكّة في ترابطها، وأغاني ساذحة لفنانين إعتقدو أن الفن مجرد تدوير لكلام تافه وقلادة في العنق وطاقية معكوسة علي الرأس الذي قصاته غريبة كصاحبه، ووشم واضح متداخل ومتوازي علي السواعد والأظهرة والمناطق الحيوية الأخرى من الجسد المثقل بالهموم والعبث، وفقرات ترويجية إنتهت صلاحيتها لكثر مارددتها إذاعتنا العالمية، وأرقاما مهولة للقتل والدماء، وأطنانا من الدموع سبكت فوق جثت وطن غدره الأباء وأغتاله الأحفاد بدم بارد.
وكل شيئ يرتفع معه منسوب الضجر والنكد والإحتقان ستجد في برنامج إذاعتنا الأبية، التي تفنن في الخسة والنذالة والتي لا تعرف للجمال معني وللبهاء مغزي.
لا يسعفني الحاضر بكل تجلياته وتراجيديته فأهرب إلي الثقافة الصومالية العريقة، وأطلب الدفئ من حضن الأغاني الكلاسيكية والأنغام الشادية ولذة الوصال التي تجلو سيمفونيتها عوارض الشكوى التي لا تنتهي، بل تتجدد عند كل ومضة شوق عابرة، أو مسحة حزن غامضة، او لذة عند مشاعل الحب ومواقد حطب اللهفة، وأعزف ألحانا بلا وتر، وتصمت الأصوات التي تشق طريقها نحو البوح وربما التذمر أو أنكى من ذالك..الهجر والتوغل في حريق غابات المشاعر حيث لا تفوح عنها سوى رماد الذكريات ودخان العاطفة الذابلة تحت نار الإنتقام والإصطلاء بالترقب رغم أن الترقب حالة من العبودية، وأرحل بوحدي إلي المجهول المحفوف بالمخاطر، حيث لا يصلني صدى صوتك ولا حروف إبتهالاتك ولا تبل دموعك ثيباب قلبي.
في عز قطيعتي وترنمي يتشكّل حبك علي هيئة طيور بيضاء تتكلم معي فيمتزج هذيان الحب بلهيب الشوق : تعال أنت أيها الحب القادم من بعيد… من تخوم وجداني ومشارف شعوري الدافئة، ومن صحارى قلبي العتمور ومن إيماضاءت الأزمنة المختلفة، و أنتِ أيتها الحورية الصادحة من أعماق قلبي منذ الأزل وفي سحيق أحاسيسي المترعة باطياف الذكريات وجمال اللقاء المتدثر ببهاء الصبايا وجمال الطبيعة وعذوبة الينابيع أثملني من طيفك النوراني ومن جسمك العاطر الذي يتضوع كزهرة متفتحة في سهول نغال الخالدة.
كنتِ نقطة ضعفي ومصدر شقاوتي وعمرا إفتراضيا لحياتي الملتفة حول احداثكِ وشخصيتكِ منذ أن إلتقينا في مهد الصبا وفي داخل البيوت الطينية المجاورة والأزقات التي يطول فيها العبور، وكنتُ أنا روحك الشفافة وقلبكِ الذي ينبض بين جوانح القلب وقفصات الضلوع، ونَفَسَك الذي تردده بصعوبة بالغة في الأيام الباردة وحين يتبلد الجو وتتزاحم الغيوم في سماء بلدتنا النائية الوادعة بشمم فوق القمم الشماء وفوهة بركان المشاعر النشطة!، وهل تتذكرين كيف عاودت إليك مشكلة التنفس التي رافقتك منذ سنين الطفولة وعام النزوح عندما هربنا إلي الجنوب الجغرافي ومررنا الجثث المتعفنة المتجندلة داخل غابات جوبا العذراء، وفوق التربة السوداء المختلطة بالدم والقيح وأشلاء الإنسان الذي مزقته القذائف وقطعته الوحوش البشرية إربا إراب قرب الشارع الذي كان يبكي بصمت ويراقب الحالة ببراعة الطبيعة وجامدية الإسفلت.
منذ ذالك الزمن العتيق، وحينما كنا نعبث أرجوحة جارنا سمتر ونتشاجر بعفوية الطفولة فأنظر إلي بريق عيونك الموحي بشئ غامض قد يأتي في الحيوات القادمة، وحينما كنا نصغي حكاية الجدات الطاعنات في المساء بأدب ينقصه التركيز، أوعندما كنا نذهب إلي المدرسة وكنتِ تجتهدين في الدرس وأنا أجتهد بشغبك ومزق أوراقكِ وتلويث صفحات كراستك بمداد قلمي المشاغب، أوعندما كنت أستمع بقصد إلي أغنية تبيع TUBEEC مطرب الشعب وملك الغيثارة الصومالية والرنات الخماسية وأيقونة الفن في الصومال، حين يردد رائعته الخالدة GURYASIMO ALLAHAOW الصادحة في بيتكم بصوت طري يتوغل في الشرايين ولا يستأذن القلب بل يداهمه بطريقة ذكية تذهل اللب ببهائه وتسحر الجنان بروعته الخالدة وإنسيابية أدائه وسريالية الأغنية التي تلخص مشاعر فنان وخلجات محب يدعو الله أن يجمع شتات المحبين بعد طول الزمن والصدأ الذي أصاب وهج الحب.
كنت أخاف من أبيك وشواربه الكثة البيضاء المعقوفة وكأنها أصداء السنين، وكلما أزور بيتكم متسترا بحجج واهية، وكلما أمر أمام بيتكم مسرعا ومترقبا كانت نظراته العنيفة التي لا تخطؤ وصوته الهادر وهو يردد الأوراد المسائية فوق سجادته الرمادية ويرفع سبحته بيمناه تحرق أغصان الحب في داخل قلبي وتذبل بتلات الإعجاب في داخل شعوري الناعم الذي لايقوى مثل هذه النظرات القاتلة، منذ ذالك الزمن يا شقاوتي وأنا أحضن قلبا مرهفا يحمل شعلة الوفاء وأكسير الهوى، وحبا أضناه السنون وأنهكه النوى وأتعبه لهيب الشوق وجمرات الغضى.