طموحاتنا بين الواقع والمأمول

الحقيقة أنه تلقَّت العاصمة مقديشو مائة وخمسين انفجارا في غضون ست سنوات، وقد راح في ضجتها أكثر من خمسة آلاف شخص، أما الجرحى فحدث عنهم ولا حرج. ومع هذه الفاجعة المتكررة فإن أحدا لا يولي إليها أي اهتمام، بل تمر بمر الكرام، وكأن شيئا لم يحدث البتّة، والشعب ينتظر الانفجار اللاحق، متى يقع ومن سيذهب بضحيته.

لا نسمع مدعي عام للجرائم خُوِّل إليه بحثُ جريمة، ولا جهة حُمل عليها المسئولية عن طريق قانون رسمي له حيثياته، ولا صدر من أي واحدة منها معلومات شفافة يستطيع المواطن العادي الاطلاع عليها، ومعرفة ملابساتها، وأهداف الجهة النافذة، وطريقة التنفيذ، والمواد المستخدمة فيها، والجهات التي قدمت لهم تسهيلات لوجستية وغير ذلك مما يطلبه أي حدث من هذه الأحداث لبناء تصور كامل للقضية!

وأعظم من ذلك كله بأن رئيس البلاد، ورئيس وزرائه لا يستطيعان أن يزورا إلى سوق بَكَاْرَهَ، ولا يحلم أحد من البرلمانيين وكوادر الدولة أن يصلوا بحرية إلى الحي يَاقْشِيْدْ، وهُرِوَاْيْ، وَدَيْنِيْلِيْ بل لا يتجرؤون أن يضعوا قدماً لهم في مطعم في حَمَرْ جَدِيْدْ ولكنهم يتحصنون في فنادق محصنة بجنود مدججة بالسلاح وبالحواجز الواقعة في منطقة معزولة، فما عسى أن نسمي هؤلاء الرؤساء الذين حيل بينهم وبين شعبهم، وهل يكمن أن نسمي دولة، لنظام لا يملك حقيقة من أرض الواقع شياً؟ ولا يحكم من العاصمة إلا جيوبا من هنا وجيوبا من هناك! بل يحكم الشباب ثلثي العاصمة، إذ لا يستطيع أحد من كوادر الدولة أو عُمَّالها ولو كانوا ـ وموظفين بسطاء ـ أن يسكنوا حيا فوق شارع وَدْنَهَ والشعب الذي يسكن في حي هَوْلْ وَدَاغْ ووَرْطِيْغْلَيْ وَيَاْقْ شِيْدْوَدِيْنِيْلَيْوَكَاْرَاْنْ وبعض المناطق من هُدَنْ وجميع هُرُوَاْيْ إلى سوق المواشي لا يدري بأن هناك حكومة في مقديشو؛ لأنهم لم يروا أحدا من العمال يغدو من مساكنهم، ولا يعرفون عاملا من عمال الدولة يسترزق من عمل الدولة. اللهم إلا مسئولو الحافات وجيوشٌ مدججون بالسلاح تحرس هؤلاء المسئولين، ولا علاقة لهم البتّة مع سكان هذه المناطق.

وجميع عمال الدولة ومكاتبها تقع من شارع مكة المكرمة إلى المطار الدولي آدم عدي ولا يستطيع عضو برلماني ولا وزير أن ينزل إلى سوق بكاره

ولا يشك أحد بأن تفجيرات الشباب ستستمر حتى تسترد الحكومة جميع الحارات في العاصمة، وتملك أمن مقديشو؛ لأن في أيد الشباب مناطق واسعة من العاصمة يستطيعون من خلالها أن شنوا منها هجوما في أي هدف يريدون، ويستطيعون بها أن يجندوا من يريدون تجنيده من الشاب الغرار، ويتحركون بكل حرية في هذه المناطق الشاسعة من العاصمة.

إن الحواجز المنتشرة في الشوارع، والجنود الجائعة لا يستطيعون إيقاف حمامات الدم، وقتل الأبرياء، وإن جنديا لا يعرف هدفه، ولا مَن يدافع عنه، لا يستطيع أن يقاوم شخصا لا يدري من أين يأتي إليه، وفي أي ساعة يصل إليه، وإن جنديا لا يهاجم وإنما ينتظر الهجوم، وتلق الضربات في موقعه، لا يستطيع أن ينتصر على من لا يعبه بالموت؛ لأن أفضل وسائل الدفاع هو الهجوم.

ومع هذه الكارثة من انفلات الأمن، والاستقرار في العاصمة، فإن الحكومة تتعامى عن هذه الحقيقة، وتلعب مع الكبار في المنطقة من الإرتريين والأثيوبيين كأنَّ أزِمَّة الأمور في أيديهم، ولا يدرون بأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه. وبدل بذل الطاقة والوقت لاستتاب الأمن، وإيقاف الدماء السائلة في كل يوم تقريبا؛ فإن الحكومة مشغولة بإطاحة رؤساء الأقاليم، وخلق فوضة جديدة في مناطق نائية تتمتع باستقرار نسبي.

وإنه يبدو في سماء السياسة الصومالية بأن الأيام القادمة حبلى، ولا ندري هل تأتي الرياح بما تشتهيه السفن أم لا، ولكن لكل شيء له مقدمات ومؤشرات، والمؤشرات في العاصمة هي انتشار المخدرات من القات والحشيش وغيرهما، وكثرة اللصوصية والنهب فيها، وانتشار الدعارة خاصة في مناطق سيطرة الحكومة، وعلى سواحل البحر، ومزاولة الخنا علنا على مرأى ومسمع من الشّعب، ومن يريد أن يغِير بعرض الشعب، أو يحاول أداء واجب النصح يُردى قتيلا، وتُلصق عليه فريةُ كونه إرهابيا، بدون محاكة عادلة أو إنصاف معروف. فمثل هذه المؤشرات تُعرف نتائجها، وتُعلم ثمراتها، وقد عادت حليمةُ إلى إلفِها القديم، إن الله لا يظلم الناس ولكن أنفسهم يظلمون!
وعليه أنصح قادة الصوماليين حاليا ومستقبلا أن يتقوا الله في شعبهم، وأن يعلموا أن الله سائلهم يوم القيامة عما ولاهم واسترعاهم، فهم أجراء لشعبهم، والأجير لا يخون مؤجره، فإذا تعارضت مصالح الشعب ومصالح الآخرين ـ ولا شك أنها تتعارض ـ فعليهم شرعا وعهدا وعقلا أن ينحازوا إلى شعبهم، وأن يقدموا مصالح أمتهم على مصالح الأجانب.
وأعظم مصلحة الشعب وأغلاها حماية دينهم ودنياهم، وحفظ عقيدتهم وسلوكهم، وحماية وحدتهم وتماسكهم، واسعاف فقرائهم وضِعَافهم.

الدكتور يوسف أحمد

الشيح يوسف أحمد ... طالب في دراسة الدكتوارة. تخرجت كلية الدراسات الاسلامية بمقدشو عام 1989. إمام وخطيب بمسجد في السويد.
زر الذهاب إلى الأعلى