ما اسباب تراجع الصوفية في الصومال؟

بقيت الصوفية على مدى عشرة قرون حاملة للدعوة الإسلامية، وتعليم تعاليم الدين الحنيف واللغة العربية، في القرن الإفريقي، إلّا أنها منذ مرحلة الاستقلال شهدت تراجعًا كبيرًا، أدّى لانخفاض حضورها الاجتماعي والسياسي، كما غدت مدارس التصوّف تتحوّل إلى مجتمعات منغلقة ومعزولة عن المجتمع الصومالي الأكبر، وعلى الرغم من تطرّق الكثير من الباحثين لمظاهر ذلك التراجع، بالتركيز على تفاعل للمدارس الصوفية مع الواقع السياسي المؤسف الذي عايشته الدولة الصومالية منذ فجر نشأتها، فإن جوانب أخرى ساهمت بشكل مباشر في تراكم أعراض هذا التدهور المبني على أسباب راجع للبنية التقليدية للتصوف في البلاد، وعجز القيادات الصوفية عن إحداث تغييرات يمكن أن تتواءم مع التطورات التي شهدها المجتمع الصومالي الحديث.

نطاق النفوذ التقليدي للتصوّف وأسباب التراجع:

كان المجتمعان البدوي والزراعي الصوماليان يشكلان الحاضنين الاجتماعي والاقتصادي للتصوّف في البلاد، بحيث اعتمدت القيادات الصوفية في تمويل أنشطتها الدعوية والتعليمية المجانية، التي كانت تؤمّن لطلبة العلم لديها، المسكن والمأكل والملبس، عليهما في تأمين ما كان يتحصل لها من خلال نصيبها من جمع الزكاة والصدقات، إضافة إلى الهبات التي كان يقدمها السكان المقتدرون، طلبًا للدعاء والبركة، كما كان الدور النهائي الذيت تقوم به قيادات الصوفية في إصدار الحكم النهائي في الخلافات والصراعات التي يعجز القادة التقليديون عن القيام بالدور المطلوب فيها، وقد كان الفصل في تلك القضايا أيضًا يساهم في تعزيز المكانة الاجتماعية والسياسية لقيادات الصوفية ضمن مجتمعاتها، وجاذبًا للمزيد من الهبات لهم، مكافأة على صنيعهم في إعادة السلام للمناطق التي غاب عنها لفترات طويلة.

حركة التمدن:

ومع حركة التمدن الكثيف الناتجة عن الهجرة من الريف إلى المدن، التي شهدتها البلاد منذ دخول القوى الاستعمارية، ونظم الإدارة الحديثة، المؤدية إلى تراكم الثروة في التجمعات البشرية الكبيرة، مقابل انخفاضها في البادية، على عكس ما كان عليه الأمر في الماضي، كما أن تركّز السلطة في يد مؤسسات الحكم الحديثة التي خلفها الاستعمار، واعتمدتها الحكومات الوطنية على مستوى القرن الإفريقي، تسبب في قطيعة مع نظم الحكم “العرفي/القبلي” الذي كان يمنح الطرق الصوفية لعب دور أعلى في القضاء، وحل النزاعات، وتنفيذ مبادرات مؤثرة على المستويات الثقافية والاقتصادية، ممثلة في تطوير طرق التعليم والترابط مع المراكز العلمية الكبرى في الشرق القديم، وتأسيس أنوية المدن عبر إنشاء المزارع التعاونية للأتباع في البوادي “جماعو”، والتي كان شكّلت إضافة مهمة في تحضير البوادي، وخلق تجمعات بشرية مستقرة معتمدة على الإنتاج الزراعي، مرحبّة بالجميع دون تمييز  قبلي أو عشائري.

إلّا أن انتقال الثقل السياسي للمدن الكبيرة، ساهم في قطع الطريق أمام الدور الكبير لمؤسسي تلك التجمعات البشرية، ومع تهميش دور القيادات الدينية، التي كانت تمثلها الصوفية، في ظل النظم والقوانين الحديثة، وآليات التقاضي والتحاكم اللاجئة إلى أدوات السلطة الحديثة، كل ذلك أفرغ الدور الأساسي القديم للقيادات الصوفية من كل معنى، بل وجعله عالة على الوضع الجديد بدلًا من الدور القيادي القديم، بانتقال تلك الرموز القيادية إلى المدن الكبرى، وركونها لحالة التقدير والتكريم المؤقت الذي حظيت به، والتي كادت أن يتبدد مع تغييب الموت للجيل الأخير الذي استمر في لعب جانبٍ من أدواره القديمة.

التدهور الاقتصادي لسكّان البادية:

إضافة للصراعات العسكرية الخارجية ثم الداخلية التي طبعت الواقع التاريخي للبلاد منذ الاستقلال، كل ذلك أدّى إلى ضرب المجال الحيوي للنشاط الاقتصادي الأهم للبدو، المعتمدين على الرعي القائم على التنقل داخل وخارج الحدود السياسية مدار الصراع بين الدول في القرن الإفريقي، إضافة إلى تدهور الأوضاع منذ بداية التسعينيات والعداوات القبلية والعشائرية، التي انفجرت في معظم أرجاء البلاد لفترات طويلة، مما حد من حركة الرعاة بقطعانهم، مما جعلهم عرضة لضربات الجفاف الشديد التي كان يتم تداركها بالهجرة والتنقل بحرّية، مما جعل فئات البدو يتحوّلون إلى فئة مهمّشة تسترعي الدعم والمساندة، وانقلب حالها من فئة ثرية ومنتجة إلى فئة تكاد لا تستطيع تحقيق الاكتفاء الذاتي، خاصة مع هيمنة الوسطاء المقيمين في المدن على أعمال تصريف الإنتاج الحيواني، محققين أرباحهم على حساب المنتجين، مقللًا ذلك هامش الربح العائد للرعاة الذين اختاروا شظف المعيش المترافق مع البداوة، والذي أثبتت الظروف كونه قليل جدوى!

وقد أدّى انخفاض دخل المجتمعات البدوية، إلى عجزها عن القيام بما كان معتادًا منها من ممارسات تتسم بالترحيب والكرم مع أبناء الطرق الصوفية، وتقديم واجبات الضيافة والقطعان والهبات لهم، إلّا أن الظروف المستجدة أدّت إلى عجز شمل الجميع، بحيث تقلّصت معه قدرة المدارس الصوفية على الإنفاق على مريديها وطلبة العلم الذين كانت الطرق تتحمل كفالتهم، أثناء فترة تعليمهم الديني، إضافة إلى ارتفاع كلف الحياة بانتقال مراكز التصوف إلى المدن الكبرى، حتى فاقت نفقات قادات التصوّف مداخيلهم، بحيث دفعت الحالة بهم إلى الاضطرار للسير في ركاب القوى السياسية القائمة، في مسعى للحفاظ على ما اقتضته التقاليد العريقة لتصوف من منح وهبات وإنفاق على المريدين والطلبة المنقطعين إليها، مؤديًا الأمر إلى مزيد من التراجع في مكانة التصوّف في المجتمع، من حيث الدورين الاقتصادي والنفوذ الاجتماعي السياسي.

محمود محمد حسن عبدي

زر الذهاب إلى الأعلى