المشروع الكيني في الصومال (1)

جذور أزمة العلاقات الصومالية الكينية قبل الاستقلال:

بدأت العلاقات الصومالية الكينية المضطربة بالنزاعات الحدودية البرّية والبحرية قبل ولادة الدولة الكينية الحالية، وأصبحت مشكلة المناطق المتداخلة بين الشعبين جُرحا في الوئام السياسي والدبلوماسي بين البلدين الجارين، ورغم أن هذا الصراع السياسي بين البلدين لم يتحول إلى حرب مسلَّحة.

فقد واجهت بريطانيا التي كانت تستعمر شرق إفريقيا بما فيها أوغندا وتنزانيا وكينيا مشكلة المسألة الصومالية في المقاطعات الشمالية الشرقية من  كينيا خلال الكفاح المسلح الذي قادته قيادات من المجتمع الصومالي الساكن في المقاطعة والذي انتهى بقمع البريطانيين والإيطاليين هذه الثورة، وفي عام 1924 قامت بريطانيا بإقتطاع جزء من “أنفدي” الذي كان يشمل منطقة (جوبالاند) وكان حدود مستعمرتي إيطاليا وبريطانيا هو نهر جوبا، إلا أن بريطانيا منحَتْ جوبالاند  لإيطاليا مكافأة لها على اشتراكها في الحرب العالمية الأولي بجانب بريطانيا بالإضافة إلى مشاركتها في قمع الثورة الصومالية في أنفدي، وأصبح خط 41 من خطوط الطول الجغرافية حداً فاصلاً بين منطقة جوبالاند التي انضمت للمستعمرة الإيطالية، ومنطقة أنفدي ( مقاطعة الحدود الشرقية الشمالية) في كينيا.(1)

و سرعان ما فرضت بريطانيا حصارا لمقاطعة “أنفدي” لمنع تسرب النهضة القومية التي بدأت في الصومال خاصة في الشمال بقيادة السيد محمد عبد الله حسن، الذي نجح إلى حد كبير في تأليب القبائل الصومالية على المحمية البريطانية في أرض الصومال، وتنظيم المقاومة الوطنية وإحياء فكرة القومية الصومالية على أساس ديني، مستلهما من ثورات مماثلة ضد القوى الاستعمارية في العالم الإسلامي والعربي.

قضية “أنفدي” بعد ميلاد جمهورية الصومال:

وبعد احتفالية استقلال الصومال الإيطالي في الجنوب والصومال البريطاني في الشمال عام 1960م تصاعدت مشاعر النضهة القومية الصومالية، وسعت القيادات الوطنية الصومالية بما فيها الأحزاب السياسية وعلماء الدين والسياسيين في داخل جمهورية الصومال وخارجها إلى السعي لضم جميع الأراضي التي تسكنها الأغلبية الصومالية والتي كانت تزرح تحت الاحتلال الأجنبي والاستعمار ، ومنها المقاطعة الشرقية الشمالية “أنفدي”،، والصومال الغربي الذي كان تحت نظام هيلاسلاسي حاكم إثيوبيا، والمحمية الفرنسية (جيبوتي).

وبعد نحو عام من استقلال الصومال وتحديدا في 11 نوفمبر عام 1961م وافقت الجمعية الوطنية الصومالية بالإجماع على اقتراح بتأييد مطالب شعب “أنفدي” بالانضمام إلى الجمهورية الصومالية بالوسائل السلمية والقانونية، وبناء على ذلك طالب وفد من (أنفدي) كان في لندن بتقرير مصير المنطقة والانضمام إلى جمهورية الصومال إلا أن السلطات البريطانيا رفضت هذه المطالب، وقرر وزير مستعمراتها مستر ساندريز  في تصريح في نيروبي في 8 مارس 1963م أن مقاطعة إنفدي ستصبح الإقليم السابع لكينيا له إدارته الخاصة.

ونتج عن هذا القرار ردود أفعال صومالية كبيرة، وعمت المظاهرات أرجاء الوطن الصومالي، وقررت الحكومة الصومالية قطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وإلغاء الاتفاقيات العسكرية والمدنية في 15 مارس 1963م، وومن جانبهم قاطع زعماء “أنفدي” بعد اجتماعهم في مدينة وجير الانتخابات العامة في كينيا، وقرروا عدم الاعتراف بالحكومة الكينية المقبلة والإدارة البريطانية.

واضطرت بريطانيا إلى تكوين لجنة للمفاوضات بشأن ” أنفدي” بين الصوماليين والكينيين والبريطانيين في 15 أغسطس 1963م بمدينة روما الإيطالية، ولم تقدم اللجنة بمقترحات واضحة تتعلق بحق تقرير مصير  الصوماليين في أنفدي، إلا أن عملية تقرير المصير لم تحدث، واستمرت المفاوضات بين كينيا والصومال عن طريق منظمة الوحدة الإفريقية في دار السلام ونيروبي والقاهرة بدوى جدوى في ما بين عام 1963-1966م.

العلاقات الثنائية بعد استقلال كينيا:

وفي غضون هذه الأزمة تم الإعلان عن استقلال كينيا في 12 ديسمبر 1963م، وبعد عام تقدم الرئيس الكيني جومو كينياتا بمشروع قانون لتعديل الدستور يلغي الاستقلال الذاتي لمنطقة ” أنفدي”، وحلّ الأحزاب السياسية، وفرض حالة الطوارئ في “أنفدي” الأمر الذي ولَّد توترات كبيرة في الإقليم، وأعلن الصومال حشد قواته في الحدود بين البلدين، واستنجدت كينيا بلحلفائها.

بدأت حرب العصابات بين كينيا وبين المقاومة الصومالية في “أنفدي” في مدن وجير وغاريسا، واستخدمت كينيا التي وجدت دعما من بريطانيا وإثيوبيا كافة أنواع التعذيب لقمع الثورة الصومالية، وتم قتل العديد من المدنيين في غاريسا وبعض الرعاة الصوماليين العزل في المحافظة.(3)

وفق اتفاقية سلام تقدمت به منظمة الوحدة الإفريقية في مؤتمرها في كينساشا بالكنغو الديمقراطية في سبتمبر 1967م وتوسُّط شخصي من زعيم إثيوبيا هيلا سلاسي تمَّ التوقيع على اتفاقية سلام مع كينيا في عروشا بتنزانيا سمِّيت باتفاقية عروشا في أكتوبر عام 1967م وقعها رئيس الوزراء الصومالي الأسبق السيد محمد إبراهيم عغال ورئيس كينيا جومو كينيا اعترفت الصومال خلالها سيادة كينيا على مقاطعة “أنفدي” وعلى الحل السلمي لهذه القضية.

نشبت مظاهرات كبيرة في مقديشو على خلفية هذه الاتفاقية  في داخل البرلمان الصومالي وفي الأحزاب السياسية، وعارض القيادي في حزب (SYL) الحاكم في الصومال آنذاك عبد الرزاق حاج حسين الاتفاقية، ونشبت خلافات كبيرة في داخل أدى إلى انشقاقه إلى جناحين، جناح انشق عن الحكومة الصومالية آنذاك بزعامة عغال الذي كانت تربطه علاقة وثقية مع حليفه الرئيس عبد الرشيد شرمأركي.

وقد عزز الرئيس الصومالي آنذاك عبد الرشيد شرمأركي ورئيس الوزراء محمد إبراهيم عغال موقهما في تأييد الاتفاقية (اتفاقية عروشا)، وبذلك توقفت حرب العصابات في ” أنفدي”، ودخل الصومال في أتون صراعات سياسية أدَّت إلى اغتيال الرئيس الصومالي شرمأركي في لاسعانود في 15 أكتوبر 1969م وإطاحة الجيش الصومالي بالحكومة في 21 أكتوبر 1969م(4).

طبيعة العلاقات بين البلدين في فترة الحكومة العسكرية:

وبعد دخول الصومال في الحكم العسكري من 1969-1991م كانت العلاقات بين الصومال وكينيا تتصف بالجمود السياسي، والعداء بين البلدين، ولكن الرئيس الصومالي الأسبق آنذاك محمد سياد بري لم يحاول الهجوم على كينيا لاستعادة ” أنفدي”، كما فعله في إثيوبيا في عام 1977م عندما اجتاحت القوات الصومالية الحدود مع إثيوبيا وحررت المناطق الصومالية في إثيوبيا قبل أن تضطر إلى الانسحاب بعد ما وجد النظام الإثيوبي دعما عسكريا من الدول الشيوعية في العالم.

وقد منحت الصومال حق اللجوء السياسي للعسكري الكيني المخضرم من أصل صومالي آدم عبد الله غبيو، عندما هرب من كينيا  عام 1970م فيعيَّنه النظام العسكري في الصومال مدربا في معسكر حلني في ضاحية مقديشو، وعندما تأسس الحزب الثوري الاشتراكي الصومالي عام 1976م أصبح الجنرال آدم غبيو عضوا فاعلا فيه، وفي عام 1979م منحه الرئيس سياد بري درجة اللواء، وأصبح نائبا لوزير الدفاع الصومالي(5).

من جانبها منحت كينيا أول لجوء سياسي لأول معارضي الحكم العسكري في الصومال عبد الله يوسف أحمد في عام 1978م ، وسمحت لهم تأسيس جبهة  معارضة غير مسلحة في كينيا، ولم تسمح لهم عمل أي نشاط عسكري ضد الصومال انطلاقا من أراضيها مما اضطر عبد الله يوسف وكبار مؤسسي جبهة الخلاص الوطني (SSDF) بالانتقال إلى إثيوبيا لبدء العمل المسلح ضد نظام سياد بري.

الخلاصة:

يمكن القول بأن الوضع الاستعماري في المنطقة ما قبل استقلال البلدين والنهضة القومية التي ظهرت في بداية الستينات وإصرار منظمة الوحدة الإفريقية على الإبقاء بالحدود الاستعمارية تفاديا من نشوب صراعات لا نهاية لها في إفريقيا خلقت حالة من العلاقات المضطربة بين الصومال وكينيا منذ الاستقلال حتى انهيار الحكم المركزي في الصومال وتدفق اللاجئين الصوماليين إلى كينيا.

المراجع:

(1)حمدي السيد سالم، “الصومال قديما وحديثا” ، وزارة الاستعلامات الصومالية، 1965م ص: 93

(2) مقال بعنوان: “مقارنة بين اتفاقتي نيروبي 2009م لبيع مياه الصومال، وعروشا لبيع أنفدي”،  تقرير نشرته شبكة صومال تولك باللغة الصومالية (Warbixin iyo Faallo: SomaliTalk.com | May 13, 2009):

http://somalitalk.com/2009/may/13/caruusha.html

(3) نيل الآمال في تراجم أعلام الصومال، تأليف أنور أحمد ميو، ترجمة آدم عبد الله غبيو.

أنور أحمد ميو

كاتب وباحث بمركز مقديشو للبحوث والدراسات
زر الذهاب إلى الأعلى