السودان بين الحكم المدني وعسكرة الدولة

المتابعين الكرام في كل مكان تحية طيبة عطرة أبعثها إليكم فرداً فرداً واتمنى أنّ تقرأوا رسالتي وأنتم في أتم الصحة والعافية.

وصلتني رسائل عدة عبر البريد الإلكتروني وعلى صفحاتي الشخصية في وسائل التواصل الإجتماعي لم أنتهي من قراءة بعضها منذ البارحة تطالبني بتفسير واضح حول ما ذكرته في مقالي الأخير الذي كان بعنوان “دعوة خليجية لدعم الدولة السودانية”، وحقيقة دعمي لإبقاء القيادة العسكرية السودانية الحالية لحكم السودان مستقبلاً. 

أولاً وقبل كل شيء، لا يحق لي، ولا يحق لأي شخص كائن من كان الإدلاء بدلوه فيما يتعلق بنوع الحكم وشكل النظام السياسي في أي دولة، فهذا شأن خاص لأبناء الدولة ومواطنيها هم وحدهم من لهم الحق في الحديث عن ذلك، ويجب الوقوف بقوة وبحزم لكل من تسول له نفسه التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ما.

إسمحوا لي أن أوضح وجهة نظري في إطار علمي واضح، وللجميع حق الرد فأنا شخصياً أرحب بالنقاش الموضوعي واحترمه حتى وإن اختلفت في بعض نقاطه.

رغم تمنياتي للسودان بحكم مدني حقيقي رشيد ودعم التوجهات والمبادىء التي نادت بها ثورة ديسمبر المجيدة  بتحقيق مدنية الدولة السودانية إلا إنني أرى أن التوقيت الدقيق الذي يمر به السودان اليوم لن يدعم هذا الإتجاه خاصة مع تعدد الأطراف الإقليمية والدولية الساعية إلى إسقاط الدولة السودانية من الداخل، فهذه الأطراف رغم محاولتها المستميتة لإستمالة الشعب السوداني بدعمها بضرورة فرض حكم مدني في السودان “ستكون هي أول من يسقطه لو جاء بإرادة شعبية حقيقية”، إلا إنها في الحقيقة تسعى لحكم مدني يأتي عبر بوابتها “حكم مدني مستورد” تحكم وتسيطر على السودان من خلاله بعد فشل الرهان على مليشيا الدعم السريع في تولي مقاليد الحكم في البلاد، وفي ظل هذا الوضع الغير قابل للتغيير على المدى القريب فلن تجد الإرادة الشعبية الحقيقية في السودان إلا الإنتظار حتى تسترد الدولة نفسها بشكل كامل بإسترداد إقليم دارفور كاملاً وإقصاء مليشيا الدعم السريع وأذيالها نهائياً من المشهد السياسي السوداني، وبعد ذلك يمكن أن يتم إعداد وتهيئة الداخل السوداني بطرح رؤيته حول مدنية الدولة بألية وكيفية واضحة تضمن عدم عودة السودان لمربع الحكم الذي بدء عام ١٩٨٩ وإقتلعته الثورة السودانية عام ٢٠١٩، “مع قناعتي الكاملة بأن سقوط نطام الإنقاذ عام ٢٠١٩ لم يسقط بسقوط رأسه”، وبعد ذلك سيتم تحقيق ما نادت به الثورة السودانية وسينجح السودان في تأصيل حكمه المدني من الداخل “غير مفروض عليه من الخارج”، وهذا ما سيقنع الشارع السوداني لدعمه ودعم مساره وبذلك سيستمد شرعيته وبقاءه من المكون الشعبي الذي يدرك بأن من أبجديات الحكم المدني الرشيد العدالة لا الولاءات والمساءلة لا الحصانه، فالحكم الرشيد ليس حالة دائمة بل إتجاه مستمر نحو النضج السياسي.

مدنية الدولة مثلما هي حق أصيل لأي مجتمع يسعى لتأصيل سيادة القانون وفرض منهجية إستقلال مؤسساته دون تدخل السلطة التنفيذية، ويعزز قوة المجتمع المدني الذي يراقب الدولة ويعترف بالأخطاء الوطنية التي ستساهم في تقوية الدولة من الداخل لا إضعافها، فهو يدرك أن قوته واستمراريته لابد لها من درع أمني يحمي بقاءها ويمنع العبث وكافة صنوف البلطجة السياسية القادمة من الخارج والتي لا تسعى فقط للسيطرة عبر عناصرها الذين إنتقتهم لتتحكم من خلالهم على القرار السياسي والأمني في السودان، بل تسعى للقضاء على السودان كدولة (حتى العناصر الذين تم إختيارهم لتنفيذ ذلك سيتم التخلص منهم تباعاً بعد تحقيق مهمتهم الموكلة إليهم).

خلاصة لما أريد قوله أن تحقيق المدنية الحقيقية المعبرة تماماً عن الإرادة الشعبية في دولة مثل السودان راكمت وعيها السياسي على مدى عقود وتمرست سياسياً وإحترفت مؤسساتها العسكرية والأمنية “ميدانياً” يحتاج اولاً إلى إدراك النخب المدنية  “الوطنية” السياسية السودانية بتجنب الأخطاء والتعلم من الفشل الذي وقعت فيه النخب المدنية السابقة والتي رغم رؤيتها الوطنية وصدقها ودورها في تأصيل الوعي السياسي والموازنة بين المصالح والسيادة، إلا إنها لم تقرأ المشهد الداخلي والخارجي بتمعن، ورغم كفاءتها التي بدت أنها تعطلت أو تم تعطيلها فهي لم توفق في طرح رؤيتها وهذا ما أعاق ولادة حكم مدني حقيقي في السودان على مدى العقود الماضية.

الذي لا يجب أن ينساه المكون الشعبي السوداني بكافة أطيافه وتوجهاته وأطرافه المدنية والعسكرية أن ثورة ديسمبر المجيدة قامت ضد الظلم الواقع في حق المواطن وليس ضد بقاء مؤسسات الدولة الوطنية، فهذه مؤسسات ولدت بميلاد الدولة وبقاءها من بقاء الدولة، وتستمد شرعيتها من شرعية الدولة الوطنية التي تستحق التضحية لأجل بقاءها واستمراريتها، وبالتالي يجب الوقوف وبحزم ضد كل من يحاول إضعافها أو إسقاطها، حتى وإن إختلفت بعض المكونات السياسية مع رأس النظام السياسي فهذا لا يعطي الحق لأي مواطن مهما بلغت درجه عداءه للنظام الحاكم أن يشارك في إضعاف وإسقاط مؤسسات الدولة. “هذه جريمة في حق الدولة”.

نتمنى للسودان الشقيق وأهله الكرام التوفيق والسداد والإستقرار والرخاء، وإن شاء الله سيولد السودان الجديد برؤية وطنية خالصة، تنفيذها والحكم عليها، والتحكم فيها، شأناً سودانياً خاصاً، وحدهم أبناء المقرن من يحق لهم التفاكر والتجادل والتوافق والإختلاف حول ذلك.

د.أمينة العريمي

باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى