حكايات بلا قناع

على الرغم من أنّه لم يحظَ بالشّهرة التي نالها معاصروه من روّاد الرواية المصرية، كنجيب محفوظ، وإحسان عبد القُدّوس، بل وتعمد البعض إقصاء اسمه عن الواجهة الأدبية سنوات طوال، فإنّ فتحي غانم ظل واقفا في وجه التجاهل، صامدا بقلمه، تاركا لنا إرثا روائيا بالغ الثراء، يستحق أن يُعاد إليه الاعتبار.

فتحي غانم، في تقديري، هو ديستويفسكي المصري؛ ليس فقط لقدرته البارعة على النفاذ إلى أغوار النفس البشرية، بل لتمكنه من تحليل هشاشتها وتجسيد تناقضاتها في شخصيات حيّة، تتأرجح في منطقة رمادية بين البراءة والخطيئة، بين الحلم والانكسار. أعماله تتسم بالغزارة والتنوع، بين روايات ممتدة مفعمة بالتفاصيل، مثل “زينب والعرش” و”الرجل الذي فقد ظله”، وأخرى قصيرة عميقة الأثر، مثل “حكاية تو” و”الغبي” و”قط وفار في قطار”.

روايته الأولى “الجبل” تُعد وثيقة أدبية فريدة ترصد التوتر بين مشروع التحديث ومجتمع تقليدي يقاوم التغيير. وقد استلهمها من تجربة واقعية في صعيد مصر، نقلها لا بأسلوب صحفي، بل عبر بناء روائي يستبطن الصراع بين الحلم والواقع، بين الهندسة الاجتماعية والذاكرة الجماعية.

وفي “تلك الأيام”، قدّم غانم قراءة بانورامية لتحولات المشهد السياسي في أربعينيات مصر، كاشفا التقاطع بين التيارات المتباينة وصعود خطاب الثورة، من خلال شخصية مثقف مأزوم تتجاذبه الشكوك، والأفكار ، والمآزق الوجودية.

أما “الساخن والبارد”، فهي معالجة ناضجة لقضية صدام الثقافات بين الشرق والغرب. وقد تجاوز فيها غانم الصور النمطية السائدة في الأدب العربي آنذاك، وكتبها بأسلوب درامي يكشف تناقضات الذات العربية، بدلا من التركيز على الهجوم على الآخر.

وروايته الأبرز “الرجل الذي فقد ظله” تُعد من علامات الرواية العربية الحديثة. كتبها بأسلوب سردي متعدد الأصوات، عاكسا تشابك العلاقات بين السلطة والمثقفين والإعلام، وكاشفا عن منظومة صعود نفعي تقايض المبادئ بالمواقع. ورغم ما أثارته من جدل في أوساط الصحافة والنقد، فإنّ الرواية تتجاوز الأسماء، والوقائع لتلامس بنية السلطة في المجتمعات المغلقة.

وفي “الغبي”، يخوض غانم مغامرة سردية مغايرة، حيث تُبنى الرواية على شهادات ، ووثائق تتشكل من خلالها ملامح شخصية تافهة صعدت بآليات نظام يفرز الرداءة ويقصي الكفاءة. العمل، وإن جاء محملا بالسخرية، لا يستهدف فردا، بل يعرّي منظومة كاملة تمجّد السطح، وتهمّش العمق.

لم يقتصر إبداع فتحي غانم على الرواية، بل امتد إلى الدراما التلفزيونية، حيث تحوّلت بعض أعماله إلى مسلسلات ناجحة، منها “زينب والعرش” و”بنت من شبرا” و”الجبل”، مقدّما من خلالها رؤيته للواقع المصري بلغة درامية رفيعة.

حقًا، إنه روائي فريد. كتب من الهامش، لكنه لامس قلب الحياة الثقافية بدون خوف. لم يكن صاخبا ولا تابعا، بل شاهدا نبيلا على زمن مضطرب في أعماله صمت المتأمل، ووجع المثقف، وابتسامة من أدرك أن الخيبة رفيقة درب، وأن الكلمة قد تكون عزاء. من لم يقرأه بعد، فليقترب من دفء نصوصه؛ ففيها ظل رجل لم يكن يسعى إلى الإدانة أو الضجيج، بل إلى تذكيرنا بما نسيناه عن أنفسنا.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى