يُعدّ مبدأ احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها من الركائز الجوهرية للنظام القانوني الدولي المعاصر، وقد كرسه ميثاق الأمم المتحدة بوصفه قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي، لا يجوز الاتفاق على مخالفتها أو التملص من أحكامها. ويشكّل هذا المبدأ حجر الأساس في استقرار العلاقات الدولية، وضمان السلم والأمن الدوليين، ومنع النزاعات ذات الطابع الانفصالي أو التوسعي.
وفي هذا الإطار، يثور جدل قانوني وسياسي متجدد حول أي اعتراف من قبل إسرائيل – أو غيرها من الدول – بما يُسمّى «صوماليلاند»، وهو جدل يطرح إشكاليات قانونية عميقة تتعلق بمشروعية الاعتراف الدولي، وحدود السيادة، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
وتهدف هذه الدراسة إلى تحليل مدى توافق هذا النوع من الاعتراف مع قواعد القانون الدولي العام، وميثاق الأمم المتحدة، والمبادئ الدبلوماسية المستقرة، وأحكام الدستور الصومالي، فضلًا عن الالتزامات الإقليمية في إطار الاتحاد الإفريقي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، مع اعتماد الحالة الصومالية نموذجا قانونيًا لوحدة الدولة وسلامة أراضيها.
أولًا: مخالفة مبدأ سيادة الدول وسلامة أراضيها
ينص ميثاق الأمم المتحدة في المادة (2/1) على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع الدول الأعضاء، كما تحظر المادة (2/4) التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة. وتُعدّ جمهورية الصومال دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، ومعترفًا بها دوليًا بحدودها الموروثة عن الاستعمار، والتي تشمل كامل إقليمها الوطني، بما في ذلك الإقليم الشمالي المعروف داخليًا باسم «صوماليلاند».
وعليه، فإن أي اعتراف بكيان منفصل داخل هذا الإقليم يُشكّل مساسًا مباشرًا بسيادة الدولة الصومالية ووحدة أراضيها، ويُعدّ انتهاكًا صريحًا ومباشرًا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
ثانيًا: الأساس الدستوري لوحدة أراضي جمهورية الصومال
أكد دستور جمهورية الصومال الفيدرالية بصورة صريحة لا لبس فيها وحدة الإقليم الوطني وعدم قابليته للتجزئة. فقد نصّت المادة (7) على أن سيادة الدولة تشمل كامل إقليمها البري والبحري والجوي، وأن هذا الإقليم مصون لا يجوز انتهاكه أو تقسيمه، كما أكدت أن أي نزاعات تتعلق بالحدود تُحل بالوسائل السلمية ووفقًا للقانون الوطني والقانون الدولي.
ويؤكد هذا النص الدستوري بوضوح قاطع عدم مشروعية أي محاولة انفصالية، أو أي اعتراف خارجي بكيان ينتقص من وحدة الدولة الصومالية أو سيادتها.
ثالثًا: انتهاك مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية
يُعدّ مبدأ عدم التدخل من المبادئ الراسخة في القانون الدولي العرفي، وقد أكّدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في إعلان مبادئ القانون الدولي بشأن العلاقات الودية والتعاون بين الدول، الصادر بموجب القرار رقم (2625) لسنة 1970. ويشمل هذا المبدأ التزام الدول بالامتناع عن دعم الحركات الانفصالية أو إضفاء أي شرعية سياسية أو قانونية دولية عليها.
ومن ثمّ، فإن الاعتراف بكيان انفصالي داخل إقليم دولة ذات سيادة يُشكّل تدخلًا مباشرًا في شؤونها الداخلية، ويقوّض سلطتها الدستورية والقانونية، ويُعدّ إخلالًا جسيمًا بالالتزامات الدولية الواقعة على عاتق الدول.
رابعًا: مخالفة القواعد الدبلوماسية المستقرة ومعايير قيام الدولة
وفقًا لاتفاقية مونتفيديو لعام 1933، يتطلب قيام الدولة في القانون الدولي توافر أربعة عناصر أساسية: الإقليم، السكان، الحكومة، والقدرة على الدخول في علاقات دولية. ورغم وجود سيطرة فعلية محدودة للسلطات المحلية في شمال الصومال، فإن هذا الكيان يفتقر إلى الاعتراف الدولي الشامل، ولا يتمتع بأهلية قانونية دولية مستقلة، كما لا يحظى بعضوية الأمم المتحدة أو أي منظمة دولية ذات طابع سيادي.
وبالتالي، فإن أي اعتراف دبلوماسي به يُعدّ خروجًا على الأعراف الدبلوماسية المستقرة، ويُشكّل سابقة قانونية خطيرة تهدد استقرار النظام القانوني الدولي.
خامسًا: تقويض مبدأ وحدة الأراضي في إطار الاتحاد الإفريقي
يقوم النظام القانوني للاتحاد الإفريقي على مبدأ احترام الحدود الموروثة عند الاستقلال وهو مبدأ تبنّته منظمة الوحدة الإفريقية واستمر العمل به في إطار الاتحاد الإفريقي. وقد أكدت قرارات وتقارير الاتحاد الإفريقي التزامه الثابت بوحدة أراضي جمهورية الصومال.
وعليه، فإن أي اعتراف خارجي بكيان انفصالي داخل الصومال يُعدّ خروجًا صريحًا عن الإجماع الإفريقي، ويُقوّض أسس السلم والأمن الإقليميين في القارة الإفريقية.
سادسًا: موقف جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي
تقوم جامعة الدول العربية، بموجب ميثاقها، على احترام سيادة الدول الأعضاء ووحدة أراضيها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وقد أكدت قراراتها المتعاقبة دعمها الثابت لوحدة جمهورية الصومال وسيادتها الكاملة.
كما تنص مواثيق وقرارات منظمة التعاون الإسلامي على الالتزام الصارم بمبدأ سيادة الدول الأعضاء ووحدة أراضيها، ورفض أي محاولات انفصالية أو اعترافات من شأنها تقويض سلامة أراضي الدول الإسلامية، ومن بينها جمهورية الصومال.
سابعًا: غياب الأثر القانوني للاعتراف الأحادي
يُقرّ القانون الدولي بأن الاعتراف يُعدّ عملًا سياديًا تقديريًا، غير أن هذا التقدير ليس مطلقًا، بل يظلّ مقيّدًا بقواعد الشرعية الدولية. فالاعتراف الأحادي بكيان غير مستوفٍ لمعايير الدولة، وفي تعارض صريح مع قرارات الأمم laالمتحدة والمنظمات الإقليمية، لا يُنشئ وضعًا قانونيًا دوليًا جديدًا، بل يُعدّ فعلًا غير مشروع دوليًا، ويُرتّب مسؤولية دولية على الدولة المُعترِفة، وفقًا لمشروع مواد مسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دوليًا لعام 2001.
ثامنًا: التكييف القانوني في ضوء قانون العقوبات الصومالي
وبالرجوع إلى أحكام قانون العقوبات الصومالي، ولا سيما المادة (184) المتعلقة بمحاولة تقويض وحدة الدولة أو استقلالها أو سيادتها (الخيانة العظمى)، فإن أي أفعال أو ممارسات تهدف إلى فصل جزء من إقليم الدولة أو إخضاعه لسيطرة أجنبية تُعدّ – من حيث التكييف القانوني – أفعالًا مجرّمة تستوجب المساءلة القانونية، مع مراعاة اختصاص الجهات القضائية المختصة وضمانات المحاكمة العادلة.
الخلاصة
تخلص هذه الدراسة إلى أن أي اعتراف من قبل إسرائيل – أو غيرها من الدول – بما يُسمّى «صوماليلاند» يفتقر إلى أي أساس قانوني معتبر، ويُشكّل خرقًا واضحًا لميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولي العام، وأحكام الدستور الصومالي، ومواثيق الاتحاد الإفريقي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، فضلًا عن كونه اعتداء مباشرعلى سيادة جمهورية الصومال ووحدة أراضيها، وتقويضًا للنظام القانوني الإقليمي والدولي القائم على احترام سيادة الدول.
المراجع
1. دستور جمهورية الصومال الفيدرالية.
2. ميثاق الأمم المتحدة، 1945.
3. الجمعية العامة للأمم المتحدة، القرار رقم 2625 (1970).
4. اتفاقية مونتفيديو بشأن حقوق وواجبات الدول، 1933.
5. Malcolm N. Shaw, International Law, Cambridge University Press.
6. James Crawford, The Creation of States in International Law, Oxford University Press.
7. مشروع مواد مسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دوليًا، لجنة القانون الدولي، 2001.
8. الاتحاد الإفريقي، تقارير بعثة تقصي الحقائق بشأن الصومال، 2005.
9. Ian Brownlie, Principles of Public International Law, Oxford University Press.
بقلم المحامي /عبد الشكور علسو محمود، شغل منصب سكرتير أول سابق لبعثة جمهورية الصومال الفيدرالية لدى الأمم المتحدة، كما تولّى سابقًا منصب مدير إدارة الموارد البشرية بوزارة الخارجية الصومالية. دبلوماسيي وخبير قانوني وله اهتمام خاص بقضايا بناء الدولة وتعزيز سيادة القانون.




