ختان المرأة بين الفقه الإسلامي وخطر الوصاية التشريعية على الصومال.

شرعت رئاسة مجلس النواب الفيدرالي الصومالي في عرض مسودات عدد من مشاريع القوانين على الأعضاء، تمهيدًا لمناقشتها في الجلسات المقبلة، في خطوة تُقدَّم للرأي العام باعتبارها جزءًا من جهود تطوير السياسات العامة وتعزيز الإطار التشريعي الوطني نحو الأفضل والأصح. غير أن هذه الخطوة معناها في الحقيقة من باب ” دس السم في العسل” وهذا ما قد يثير جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية والاجتماعية والسياسية، وسط مخاوف متزايدة من أن تتحول بعض هذه التشريعات إلى أدوات لفرض وصاية قانونية خارجية على البلاد، في ظرف وطني يتسم بضعف مؤسسات الدولة وتكثّف التدخلات الأجنبية في مسارات التشريع وصناعة القرار.

من بين أبرز هذه المسودات، يبرز مشروع قانون يمنع ما يُسمّى بـ«الختان القسري للإناث». ورغم أن  العنوان الظاهر لهذه المسودة المعروضة أمام البرمان توحي بحماية المرأة وصون كرامتها، فإن قراءة متأنية لمضمونه تكشف أن الصياغة المقترحة تتجه نحو تجريم ختان المرأة بجميع صوره، حتى إذا تم وفق الضوابط الشرعية التي قررها الفقه الإسلامي، ودون أي تفريق بين الختان المشروع الذي تناوله العلماء بالبحث والتفصيل، وبين الممارسات الجاهلية الضارة المعروفة اصطلاحًا بـ«الختان الفرعوني».

وقد أثار هذا التوجّه اعتراضات واسعة في الأوساط الإسلامية والاجتماعية، لكونه يتجاهل المرجعية الشرعية للمجتمع الصومالي، ولا يراعي ما استقر عليه فقهاء المذاهب الإسلامية، وعلى رأسهم فقهاء المذهب الشافعي الذي يشكّل الإطار الفقهي الغالب في البلاد.

ويرى مراقبون أن عرض هذه المسودة لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة تمرير بعض البنود ذات الصلة خلسة ضمن الفصول الأربعة الأولى التي تمّت المصادقة عليها سابقًا، خلال صخب المناقشات المتعلقة بالانتخابات وترتيباتها.

وفي تلك الأجواء السياسية المشحونة آنذاك، جرى تجاوز توصيات العلماء، وضُرب بها عرض الحائط، رغم أنهم قيدوا المنع الشرعي تحديدًا بما يُعرف بـ«الختان الفرعوني» لما يترتب عليه من أضرار جسدية ونفسية جسيمة.

وقد أتاح هذا الظرف لبعض النواب المتأثرين بالمصالح والضغوط الأجنبية والممولين من قبلهم استغلال اللحظة السياسية لتمرير صياغات عامة وفضفاضة، ثم إعادة طرحها اليوم في صورة مسودات قانونية مفصلة وشاملة، يُراد لها أن تكتسب طابعًا دستوريًا يُجرّم ختان المرأة مطلقًا، دون أي اعتبار للفروق الشرعية بين المشروع والمحرّم.

ويُذكر أنه عقب المصادقة على تلك الفصول، أبدت هيئات وجمعيات عديدة – محلية وخارجية – ارتياحها البالغ للطريقة التي أُدرجت بها تلك البنود، بعد أن فشلت لسنوات طويلة في إدخالها صراحة ضمن الدستور الصومالي. بل ذهبت بعض هذه الجهات إلى الإشادة العلنية بمن أسهموا في تمرير تلك الصياغات المخالفة للمرجعية الشرعية، معتبرة ذلك «إنجازًا حقوقيًا»، رغم ما ينطوي عليه من التفاف على الإرادة المجتمعية والهوية الدينية للبلاد.

فقهيًا، لم تكن مسألة ختان المرأة غائبة عن مدوّنات الفقه الإسلامي، بل تناولها العلماء قديمًا وحديثًا ضمن ضوابط واضحة. وقد ثبت في السنة النبوية عدد من الأحاديث التي تدل على أن ختان النساء كان معلومًا وموجودًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مع التأكيد الصريح على منع المبالغة والإضرار.

فقد روي عن أم عطية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للخاتنة: «لا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة، وأحب إلى البعل» (رواه أبو داود).

وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: «يا نساء الأنصار، اختفضن ولا تنهكن» (رواه البيهقي).

كما ورد في الحديث الصحيح: «ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل» (رواه مسلم), وهو ما يدل دلالة واضحة على أن ختان النساء كان معروفًا ومعترفًا به في المجتمع النبوي.

وقد فصل الشافعي – كما نقل عنه الماوردي – في موضع ختان المرأة، مبينًا أنه يكون على جلدة مستعلية فوق مخرج البول، وبكيفية تحفظ وظائف الفرج ولا تُلحق بالمرأة ضررًا.

ويؤكد عدد من العلماء والأطباء المسلمين أن الخلط بين الختان المشروع والممارسات الضارة هو أصل الإشكال. يقول الدكتور محمد علي البار، عضو الكليات الملكية للأطباء بالمملكة المتحدة ومستشار الطب الإسلامي: «أما ما يُمارَس في بعض المناطق من استئصال كامل للبظر أو الشفرين، فهو مخالف للسنة، ويسبب مضاعفات خطيرة، وهو المعروف بالختان الفرعوني، ولا علاقة له بالختان الشرعي الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم».

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا حصلت المبالغة في الختان ضعفت الشهوة، فلا يكمل المقصود، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود باعتدال».

إن الإشكال في هذه المسودات لا يقف عند حد الخلاف الفقهي، بل يتجاوزه إلى بعد سياسي وسيادي أعمق. فالتشريع الذي يتجاهل المرجعية الدينية للمجتمع، ويُصاغ استجابة لضغوط خارجية، إنما يمهّد لفرض وصاية قانونية على البلاد، ويُقوّض مبدأ السيادة التشريعية، ويعمّق الفجوة بين الدولة ومجتمعها.

إن النقاش حول مسودات القوانين المطروحة، وفي مقدمتها مشروع تجريم ختان المرأة، ليس نقاشًا دينيًا محضًا، بل هو نقاش وطني وسياسي بامتياز، يمس هوية المجتمع الصومالي واستقلال قراره التشريعي. وهو يضع على عاتق العلماء، والنخب الفكرية، ومؤسسات المجتمع مسؤولية كبرى في حماية المرجعية الشرعية، وضمان أن تكون القوانين نابعة من قيم المجتمع ومصالحه الحقيقية، لا انعكاسًا لأجندات خارجية تسعى إلى فرض وصاية قانونية جديدة على البلاد تحت شعارات براقة.

بقلم: علي أحمد محمد المقدشي

زر الذهاب إلى الأعلى