الجزء الثاني حول السؤال: أليس قد آن الأوان لفتح نقاش حول نقلٍ محتملٍ للعاصمة من مقديشو؟
تتعرض مقديشو، منذ فرض النظام الفيدرالي على البلاد، لضغوط سياسية وإعلامية متواصلة، تصدر في معظمها من طرف واحد يسعى إلى إعادة تشكيل المشهد الوطني على حساب العاصمة وسكانها.
وفي الجزء الأول من هذا المقال أوضحتُ حقيقة السؤال المصطنع: لمن تنتمي مقديشو؟ وكشفت خلفياته والجهات التي تقف وراءه. واليوم يطفو على السطح سؤال آخر لا يقل سطحية ولا افتعالًا: هل يجب نقل العاصمة من مقديشو؟
هذا السؤال لم ينشأ من العدم، بل هو أحد المخرجات الخطيرة التي أفرزها النظام الفيدرالي ذاته، وهو الامتداد الطبيعي لذلك السؤال السابق. فقد جاءت هذه الدعوات نتيجة مباشرة للتجاذبات السياسية بين إدارة الرئيس الأسبق شريف شيخ أحمد من جهة، وولاية بونتلاند من جهة أخرى، وما رافق تلك الفترة من ضغوط ومساومات مورست عليه خلال اتفاقي غراوي 1 وغراوي 2، حين كان يسعى إلى تمديد ولايته ونيل فترة رئاسية ثانية. وقد انتهى ذلك الفشل السياسي إلى تضييع جانب مهم من حقوق سكان العاصمة، وجعل استقرار مقديشو رهينة لتقلبات ميزان القوى الفيدرالي المختل، بدل أن يستند إلى أسس وطنية عادلة وثابتة.
ومن هنا ترتفع اليوم أصوات تطالب بنقل العاصمة من مقديشو، في محاولة واضحة لإثارة خلافات جديدة بين الصوماليين. والغاية من طرح هذا الموضوع في هذا التوقيت تحديدًا لا تخرج عن أمرين رئيسيين:
- الضغط على سكان مقديشو لإجبارهم على التنازل عن حقوقهم، ومحاولة إلزامهم—إن أمكن—بقبول التنازلات السياسية غير الموفّقة التي قدمها شريف شيخ أحمد لبونتلاند، وإظهارها وكأنها حق مكتسب أو أمر واقع لا سبيل إلى التراجع عنه.
ويأتي ذلك ضمن مساعٍ لتحويل العاصمة إلى «قصعة» يتزاحم عليها الطامعون، كمكان تستبيحه القوى السياسية المتنافسة، تتقاسم فرائسه وتترك بقاياه، في مشهد يختلط فيه الصراع بالفوضى والازدحام. وهي صورة تكاد تتطابق مع الواقع الذي يعيشه أهل مقديشو منذ فرض النظام الفيدرالي، حيث يعانون الفقر والحيرة وغياب العدالة الاجتماعية، ويُحرم أبناؤهم من فرص العمل العامة إلا بالالتحاق بالمؤسسة العسكرية، وكأن منافذ العمل الأخرى أُغلقت في وجوههم عمدًا. - دفع السكان إلى قبول فكرة نقل العاصمة دون أي مسوّغ شرعي أو قانوني، عبر حملات إعلامية تستند إلى الإثارة لا إلى الحجة، في محاولة لفرض رؤية تخدم النظام الفيدرالي القائم، وتمكّن بعض القوى من بسط نفوذ إقليمي أو حزبي على حساب الحقوق التاريخية والسياسية والاجتماعية لسكان مقديشو.
وعند مناقشة الداعمين لفكرة نقل العاصمة، ظهر بوضوح أنه لا يوجد أي مبرر علمي أو شرعي أو منطقي أو قانوني يمكن الركون إليه.
فقد قال بعضهم: “إذا طالب أهل مقديشو بحقوق خاصة في مدينتهم، فلا يمكن أن تكون عاصمة لكل الصوماليين.” وعندما سُئلوا: “هل هناك في الأنظمة السياسية المعاصرة ما يجيز تجريد سكان العاصمة من حقوقهم الشرعية والسياسية؟” لم يجدوا جوابًا.
وبرّر آخرون موقفهم بقولهم: “كيف يُعقل أن تتولى قبيلة واحدة إدارة مدينة العاصمة؟” فقيل لهم: “أليست إدارة كل مدينة من مدن البلاد في الغالب بيد قبيلة واحدة، وينظم ذلك تحت مسمى الولايات؟” فأجابوا: “بلى.” فقيل لهم عندئذ: “فلماذا تجعلون أهل مقديشو استثناء دون غيرهم؟” ولم يكن لديهم جواب كذلك.
ثم طُرح سؤال آخر: “هل توجد عشيرة أو مدينة صومالية واحدة مستعدة للتنازل عن حقوقها، لتصبح مدينتها عاصمة بديلة عن مقديشو؟” فكان الجواب: “لا يوجد.” فقيل لهم: “إذن، ما سبب إثارة هذا الجدل حول مقديشو؟ ومن يقف وراء هذه النقاشات المضلِّلة في هذا الوقت تحديدًا؟”
ويطرح هذا التساؤل احتمالًا خطيرًا: هل المقصود من هذه الضجة إحداث بلبلة داخل المجتمع، لتهيئة مبرر سياسي أو شعبي قد تستند إليه إحدى الولايات الفيدرالية الحالية لإعلان الانفصال عن الجمهورية الفيدرالية الصومالية، كما فعلت من بعض القبائل في شمال الغربي للبلاد؟ أم أن الأمر محاولة لإعادة إنتاج سيناريو التفكك عبر بوابة العاصمة نفسها؟
أليس من الأجدر، بدل الانشغال بطرح فكرة نقل العاصمة من مقديشو، إعادة النظر في النظام الفيدرالي نفسه؟
فقد بات من الضروري وضع هذا النظام جانبًا، والبحث عن صيغة سياسية جامعة تحمي مصالح المجتمع الصومالي، وتضمن توسيع حقوق المواطنين والمدن على حدّ سواء، وتحدّ من أطماع رؤساء الولايات وتجاوزاتهم السياسية. فالواقع الحالي للنظام الفيدرالي دفع بعض الولايات إلى التفكير في إقامة علاقات خارجية مستقلة، وطباعة عملات خاصة، وإصدار بطاقات جنسية لكل ولاية، بل وبناء جيوش منفصلة، وهو مسار يشكل تهديدًا مباشرًا لوحدة البلاد ويُعمّق الانقسامات الداخلية.
وإذا ما اقترب النقاش—الذي لم يبدأ بعد—حول أي انتقال محتمل للعاصمة، فلا بدّ من وضع شروط وضوابط واضحة تكفل حقوق المواطن الصومالي في العاصمة البديلة المزعومة، مع مراعاة الاعتبارات الجغرافية والسياسية والاقتصادية والأمنية، حتى لا يُدفع المجتمع إلى قبول نقل العاصمة إلى موقع قد يتحول إلى طُعمة سهلة للاحتلال أو ميدانًا لاستغلال القوى الخارجية.
بقلم: علي أحمد محمد المقدشي





