الهوية قبل المصالح

في هذه اللحظة الدقيقة من تاريخ الصومال، لم يعد ممكنًا النظر إلى ما يُثار من محاولات خارجية للاعتراف بما يُسمّى “أرض الصومال” باعتباره مجرد طرح سياسي عابر أو اجتهاد دبلوماسي قابل للأخذ والرد. نحن أمام مشروع واضح الملامح، تقف خلفه أطماع إسرائيلية تسعى إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة عبر بوابة التفكيك والانقسام، مشروع لا يستند إلى شرعية قانونية، ولا إلى واقع تاريخي، ولا إلى إرادة شعبية، بل يقوم على منطق همجي يعيد إنتاج أساليب الاستعمار القديمة بأدوات جديدة.
وهناك تدخّل أمريكي خلف الكواليس، ومصالح دول عربية اقليمية ممتدة نحو النفوذ الاقتصادي والسياسي، إضافة إلى تحركات إثيوبية دقيقة، تعمل أحيانًا على شكل حركات دبلوماسية أو مشاريع ظاهرها التطوير وباطنها التحكم، تمامًا كما تهيّأت بعض المشاريع الإقليمية في الماضي تحت شعارات كاذبة للسلام أو الاستثمار.
إن هذا المخطط، في جوهره، لا يستهدف إقليمًا بعينه ولا سلطة محددة، بل يضرب في عمق الدولة الصومالية، ويقوّض فكرة الوطن الجامع، ويفتح الباب أمام مرحلة من الفوضى السياسية والأمنية لن يكون من السهل احتواؤها. فالاعتراف بكيان انفصالي داخل الصومال لا يعني فصل جزء من الأرض فحسب، بل يعني شرعنة مبدأ التفكيك، وتحويل الخلافات الداخلية إلى حدود دولية، وهو مسار إن بدأ فلن يتوقف عند نقطة واحدة.
والأخطر من المخطط ذاته هو الرهان الذي يقوم عليه، وهو رهان واضح على هشاشة الموقف الصومالي، وعلى انقسام النخبة السياسية، وعلى انشغال المجتمع بصراعاته الداخلية، القبلية منها والسياسية، إلى درجة تغيّب الوعي بخطورة اللحظة. إن من يروّج لمثل هذا المشروع يدرك تمامًا أن الصومال لا تُهزم من الخارج ما دامت متماسكة من الداخل، ولذلك فإن سلاحه الحقيقي ليس القوة، بل زرع الشقاق وتغذية الانقسام وإطالة أمد الخلاف.
ومن هنا، فإن هذه القضية لا حدّ لها عند أحد، ولا يمكن حصرها في دائرة القادة أو المؤسسات الرسمية وحدها. إنها مسؤولية الصوماليين جميعًا دون استثناء، قادةً وشعبًا، شيوخًا وشبابًا، رجالًا ونساءً، في الداخل والمهجر. فالوطن حين يُستهدف لا يُسأل المرء عن موقعه السياسي ولا عن انتمائه الجهوي، بل عن موقفه الأخلاقي والوطني. والصمت في مثل هذه اللحظات لا يُعد حيادًا، بل يتحول، بقصد أو بغير قصد، إلى مساحة يتحرك فيها الخطر.
إن وحدة الصومال ليست شعارًا ظرفيًا يُستدعى عند الأزمات ثم يُنسى، وليست ورقة تفاوض تُستخدم في صراعات السياسة، بل هي حقيقة تاريخية تشكّلت عبر قرون من التعايش المشترك، وتكرّست بتضحيات جسيمة، واعترف بها العالم دولةً ذات سيادة وحدود واضحة. وأي محاولة للالتفاف على هذه الحقيقة عبر اعترافات خارجية مفروضة لا يمكن أن تنتج استقرارًا، بل تزرع بذور صراعات طويلة الأمد، يدفع ثمنها الأبرياء قبل غيرهم.
وتقع المسؤولية الكبرى في هذا السياق على عاتق القادة الصوماليين، في الحكومة الفيدرالية وفي الأقاليم، بأن يرتقوا إلى مستوى اللحظة، وأن يدركوا أن المناصب زائلة، والتحالفات متغيرة، أما الوطن فباقٍ، وأن التاريخ لا يحفظ الأعذار، بل يسجّل المواقف. غير أن تحميل القادة وحدهم عبء المواجهة يبقى ناقصًا، فالشعب الصومالي هو خط الدفاع الأول، ووعيه هو السدّ الحقيقي أمام كل مشاريع التفكيك. فحين يرفض الناس الانقسام، ويدركون خطورته، ويجعلون من وحدة الوطن قضية يومية في خطابهم وسلوكهم، يصبح أي مخطط خارجي بلا قاعدة يرتكز عليها.
إن الدفاع عن الصومال لا يبدأ من المؤتمرات الدولية وحدها، بل من المسجد حين يُذكَّر الناس بحرمة الأرض، ومن المدرسة حين يُربّى الجيل على معنى الوطن، ومن الإعلام حين يُقدَّم خطاب جامع لا تحريضي، ومن المجالس العامة حين تُقدَّم المصلحة الوطنية على الاعتبارات الضيقة. فالوطن فكرة قبل أن يكون حدودًا، وإذا صمدت الفكرة سقطت كل المشاريع التي تستهدفها.
إن ما نواجهه اليوم ليس نزاعًا إداريًا ولا خلافًا سياسيًا عابرًا، بل اختبارًا وطنيًا شاملًا، تُقاس فيه قيمة القيادة بقدرتها على تجاوز الخلافات، وتُقاس فيه يقظة الشعوب بمدى استعدادها للدفاع عن وحدتها. فحين تُمسّ السيادة، تسقط كل الحسابات الصغيرة، وحين يُهدَّد الوطن، يصبح التردد عبئًا، والصمت مخاطرة، والانقسام طريقًا مفتوحًا للخسارة.
لقد مرّ الصومال بمحن كثيرة، وتعرّض لجراح عميقة، لكنه لم يفقد جوهره، ولم تنكسر إرادة شعبه، ولم تُمحَ هويته الجامعة. وكل مشروع يُبنى على تجاهل هذه الحقيقة محكوم عليه بالفشل، شرط أن يعي الصوماليون أن وحدتهم ليست خيارًا سياسيًا، بل شرط وجود. فالأوطان لا تُحمى بالنوايا الحسنة وحدها، ولا بالشعارات الرنانة، بل بوحدة القرار، وصلابة الموقف، وتقديم المصلحة العامة على كل ما عداها.
هذه لحظة لا تقبل التردد ولا تحتمل المساومة، لحظة يتقدّم فيها الوطن على كل اعتبار، ويعلو فيها صوت الصومال فوق كل الأصوات. فإما أن نكون شعبًا يدافع عن نفسه بوعيه ووحدته، أو نترك للآخرين أن يرسموا مستقبلنا في غيابنا. والتاريخ، كما علّمنا، لا يرحم من أضاع وطنه وهو يظن أن الخطر يخص غيره.

صلاد علمي فيذو

كاتب وباحث صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى