القيم العسكرية في الصومال بين النظرية والتطبيق

لا أحد ينكر أن لكل دولة رمزها وهيبتها، وأن لكل وطن ملامحه الخاصة التي تميّزه بين الأمم. وفي الصومال، يبقى الجندي أحد أهم تلك الرموز وأكثرها دلالة؛ فهو ترسانة البلاد الحقيقية، وواجهة قوتها، ومرآة صمودها في وجه العقود الطويلة من الاضطراب والمحن. إن الجندي الصومالي لا يمثّل مجرد عنصر في مؤسسة عسكرية، بل يجسّد هوية وطن بأكمله، ويختزل في خطواته اليومية آمال الشعب كله في الأمن والاستقرار وبناء الدولة. ومن هنا تبدأ قصة هذا الجندي؛ قصة الحلم، والتضحية، والتحوّل تحت وطأة واقع لا يرحم.
يشكّل الجندي الصومالي اليوم إحدى أبرز الصور التي تعكس واقع الدولة وما تحمله من آمال وتحديات. فالصومال الذي يحاول منذ سنوات أن ينهض من تحت ركام الحرب ، وعدم الاستقرار، يضع ثقته في شبابه الذين يشكّلون العمود الفقري لما تبقى من طاقة وطنية قادرة على البناء. وفي مقدمة هؤلاء يقف الجندي الصومالي، ذلك الشاب الذي يترك بيته وأهله وأحلامه ليرتدي البزّة العسكرية، آملًا أن يكون جزءًا من مشروع يعيد للوطن مكانته وهيبته.
يدخل الجندي معسكر التدريب وهو ممتلئ بالحماسة والمثالية، كثير منهم خريجو جامعات أو معاهد، يحملون شهادات وكفاءات، ويأتون بخيال واسع عن دولة قوية يحلمون بالمساهمة في بنائها، يدخلون نظيفي السلوك، بعيدين عن العادات الضارة، متشبّعين بروح الانضباط والشرف العسكري، يرون في حمل السلاح مسؤولية وطنية قبل أن تكون واجبًا وظيفيًا، ويتعاملون مع المواطن باحترام يفوق ما يطلبه القانون، يرفضون الرشوة ويغارون على سمعة المؤسسة، ويتعاهدون فيما بينهم على أن يكونوا جنودًا يمثلون الصورة التي يستحقها الصوماليون عن جيشهم.
لكن هذه الصورة اللامعة لا تصمد طويلًا أمام صدمة الواقع، فبعد أشهر من الخدمة، وربما بعد سنوات، يبدأ الجندي يلاحظ الفجوة الهائلة بين ما كان يحلم به وما يعيشه. فالمؤسسة العسكرية، رغم خطط إعادة بنائها، لا تزال مثقلة بنقص الموارد، وضعف التجهيزات ،وضغوط الميدان، الرواتب لا تكفي، والمهام مرهقة، والمخاطر يومية. وما يزيد الأمر قسوة أن الجندي يرى زميله المصاب لا يجد علاجًا كافيًا أو ينتظر طويلًا للحصول على إسعاف مناسب، فيشعر أن كرامة الجندية نفسها تتعرض لجرح عميق لا يندمل.
وتزداد الصعوبات عندما يكون الجندي من خريجي الجامعات الذين كانت أسرهم تنتظر منهم أن يعيلوا المنزل ويجلبوا ثمرة التعليم. غير أن الواقع يضعهم أمام حقيقة صعبة؛ رواتبهم لا تكفي لتغطية نفقاتهم الخاصة، فكيف يمكنهم مساعدة أهلهم؟ ومع تراكم هذا الضغط النفسي والاقتصادي، يصبح الحلم الذي دخلوا به المعسكر أكثر هشاشة وابتعادًا.
ومع مرور السنوات، يخفت ذلك الوميض الذي كان يملأ أعينهم، لا يعود الجندي ذلك الشاب المبتسم الواثق، بل يصبح أكثر انكفاءً على همومه، وأقل حماسة لخوض المهمات، تبدأ قيمه الأولى بالتآكل ببطء؛ بعضهم يلجأ للقات أو التدخين هربًا من الضغط، وآخرون يقبلون رشوة صغيرة تحت وطأة اضطرار مالي خانق، وهكذا تتساقط القيم التي حملها معهم يوم أن دخلوا المعسكر، وتتبدل تدريجيًا تحت ضغط واقع لا يرحم.
ولا يتوقف أثر هذا التراجع عند حدود الجندي الفرد، بل ينعكس على صورة الدولة نفسها في أعين الناس، فعندما يرون الجندي وقد بدأت قيمه تتغير، يشعر المواطن بأن المؤسسات تتراجع وأن الفساد ينتشر وأن الثقة بالدولة تنخفض، يصبح وضع الجندي حينها قضية وطنية تمس الأمن والثقة والهوية.
ومواجهة هذا الواقع تتطلب رؤية شاملة تعيد الاعتبار للجندي قبل المؤسسة، يحتاج إلى راتب يكفيه ليعيش بكرامة، ورعاية صحية تحترم إنسانيته، ودعم نفسي يخفف وطأة الضغوط، وقيادة تستمع إليه، وأنظمة تكافئ الانضباط وتعاقب الفساد بقدر عادل، يحتاج أن يشعر بأن الدولة تقف معه، وأن المجتمع يقدر تضحياته، وأن مستقبله سيكون أفضل من حاضره.
وحين يجد الجندي هذا الدعم، يمكنه أن يستعيد تلك الروح المتقدة التي دخل بها المعسكر لأول مرة، فالجندي ليس مادة صلبة تُستخدم ثم تُستبدل، بل هو إنسان يحمل حلمًا ومسؤولية. وإذا تمكّن الصومال من الحفاظ على هذا الجندي كما يجب، فإنه يكون قد حافظ على مستقبله. فالجندي هو وجه الوطن وصوته وكرامته، وإذا بقي قويًا نزيهًا، بقي الوطن كذلك.
-التوصيات

  1. غرس حب الوطن في نفوس الجنود وتعزيز قيم التضحية من أجله، من خلال برامج توعية وتدريب تذكّر الجندي دائمًا بأن خدمته رسالة سامية لضمان استقرار البلاد ومستقبل أجيالها.
  2. رفع رواتب الجنود وتحسين أوضاعهم المعيشية لضمان حياة كريمة، تمنع الانزلاق نحو سلوكيات سلبية ناتجة عن الحاجة أو الضغوط الاقتصادية.
  3. توفير الرعاية الصحية الكاملة، من خلال تجهيز مستشفيات عسكرية فعّالة، وتوفير فرق طبية ميدانية للتعامل مع الإصابات الطارئة دون تأخير.
  4. تقديم برامج دعم نفسي واجتماعي ترافق الجنود خلال مراحل الخدمة، خصوصًا في البيئات الميدانية القاسية.
  5. تطوير منظومة الرقابة العسكرية لضمان الشفافية ومنع الفساد، ومحاسبة أي مسؤول يسيء استخدام السلطة أو يهمل واجبه تجاه الجنود.
  6. تحديث المعدات العسكرية وتوفير الدعم اللوجستي، لتمكين الجنود من أداء مهامهم بأمان وفعالية دون تعريض حياتهم للخطر.
  7. الاستثمار في التدريب الاحترافي الذي يرفع كفاءة الجندي ويمنحه أدوات عملية للتعامل مع المهام المختلفة بكفاءة عالية.
  8. تعزيز ثقافة التقدير داخل المؤسسة العسكرية عبر مكافآت معنوية ومادية، وترسيخ مبدأ أن الانضباط والنزاهة طريق للترقي.
  9. أن تكون الترقيات العسكرية مبنية على الجدارة والتضحيات الفعلية للجندي، وليس على القبلية أو المحاصصة، بحيث يُقدّر من يثبت إخلاصه في أداء مهامه وتفاعله الإيجابي مع المجتمع والشعب الذي يخدمه.
  10. ربط الجنود بالمجتمع من خلال برامج تبرز تضحياتهم وتعيد بناء الثقة المتبادلة بين المدنيين والعسكريين.
  11. توفير مسارات مهنية واضحة تضمن مستقبلاً مستقرًا للجندي داخل المؤسسة العسكرية وبعد انتهاء الخدمة.
  12. توفير قيادة رشيدة وقريبة من الجنود تستمع لمشكلاتهم وتحلها، وتؤكد لهم أن الدولة تقف إلى جانبهم في كل الظروف.

صلاد علمي فيذو

كاتب وباحث صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى