عند الحديث عن الصوماليين من حيث القومية، فإنهم شعب واسع الامتداد يقيم في دول عديدة، مع بقاء الصومال وطنهم الأم ومركز ثقلهم الأكبر. غير أنّ حضورهم الديمغرافي والجغرافي يتجاوز حدود الدولة ليشمل القرن الإفريقي كله؛ إذ يشكّل الصوماليون قوة معتبرة في جيبوتي، كما يحظون بنفوذ وازن في كينيا وإثيوبيا، حيث تُعدّ القومية الصومالية من أكبر القوميات مساحة وانتشارًا هناك، بل هي أوسع قوميات المنطقة امتدادًا عبر التاريخ.
ويُقيم جزء من أبناء القومية الصومالية كذلك في تشاد وعُمان، حيث يُعدّون من أهم المكوّنات التي ساهمت في تشكيل البنية الاجتماعية في تلك البلدان.
كما تنتشر جاليات صومالية نشطة في دول إفريقية عديدة مثل أوغندا، وتنزانيا، وجنوب إفريقيا، وزامبيا، والكونغو، بالإضافة إلى حضور قوي في دول الغرب من أمريكا وكندا وأوروبا.
وتشتهر هذه الجاليات بتميزها في التجارة، وبتحفظها الديني، وثباتها على قيمها أينما حلّت.
وعلى الرغم من هذا الامتداد التاريخي والمكانة الراسخة، فإنّ من يجهل تاريخ الأمم، أو من يضيق أفقه السياسي، يسهل عليه أن يستخفّ بالشعوب ويقلل من شأنها؛ كما يفعل بعض السياسيين مثل ترامب، أو بعض إخوتنا العرب ممّن قصرت معرفتهم بتاريخ هذه الأمة الصومالية العريقة.
وقد بيّن القرآن الكريم سنّة إلهية جرت على كثير من الأمم، حين يُساق قومٌ إلى بلاد ليست رغبة منهم، وإنما اضطرارًا، كما سِيق موسى عليه السلام إلى بيت فرعون. ثم حاول فرعون بعد ذلك أن يمنّ عليه بتلك التربية حيث قال كما أخبر الله تعالى عنه: ( قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) مع أنّه هو من اضطهد قوم موسى، وسامهم سوء العذاب، وكان السبب في تلك المحنة. قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿٧﴾ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴿٨﴾ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۖ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾
ومعنى ذلك أنّ فرعون هو الذي ظلم هذا الشعب الكريم — بني إسرائيل — واستعبدهم وجرّعهم صنوف العذاب، فكيف يمنّ بعد ذلك على موسى بما كان سببًا فيه؟ ولهذا جاء ردّ موسى عليه السلام حاسمًا، قاطعًا لدعوى الإحسان الكاذبة: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي: لست صاحب منّة، بل أنت صاحب بلاء وظلم.
وهكذا هي الحال اليوم مع من يحاول أن يمنّ على الصوماليين لجوءهم أو إقامتهم في بلاد الغرب؛ فليتذكّر هؤلاء أنّ الصومال بلدٌ ثريّ بموارده البترولية والمعدنية والحيوانية والسمكية، وأنه يحتل موقعًا جغرافيًا فريدًا، يُعدّ من أهم الممرات الاستراتيجية برًا وبحرًا. ولولا المؤامرات الخارجية خاصة الغربية التي أسقطت الدولة المركزية في التسعينيات، لما اضطر الصوماليون إلى الهجرة، لا إلى الشرق ولا إلى الغرب.
ومع ذلك، فإن الجالية الصومالية — رغم الظروف القاسية التي خرجت بها — بقيت في كل مكان جالية فاعلة، قوية الحضور، ثابتة على قيمها، تشهد لها المجتمعات بأخلاقها ونجاحها وتماسكها.
فالصوماليون قومية عريقة ذاع ذكرها منذ فجر الإسلام، ومن لم يعرف حقيقتهم فليعد إلى كتب التاريخ، أو فليقرأ ما دوّنه الحبشة والبرتغاليون والإنجليز والإيطاليون والفرنسيون؛ فهؤلاء جميعًا خبروا بأسهم، وعرفوا شدّتهم، وسجّلوا صمودهم في وثائقهم قبل أن تُسجَّل في الذاكرة الصومالية.
أما الذين ينتقصون من الصوماليين اليوم بغير علم، فمن أين لهم ذلك، وهم أنفسهم لم يكونوا — حين كانت هذه الأمة في أوج قوّتها — دولًا قائمة، ولا قوى معاصرة ذات شأن؟
والنظر إلى الصوماليين — شعبًا ودولة — إنما يتوقف على صفاء البصيرة؛ فالعين لا ترى إلا بقدر نقائها أو بقدر ما يعتريها من عِلّة. فكما أنّ النحلة لا تقع إلا على الزهر الطيب، بينما لا يعرف الذباب إلا مواطن القذر، فكذلك الناس: منهم من ينظر بعين العدل فيرى الحقائق كما هي، ومنهم — كترامب وبعض إخوتنا العرب — لا تبصر عيونهم المريضة إلا ما كان نتنًا أو دخيلًا، طلبًا للانتقاص والازدراء، أو بسبب جهلهم بحقيقة هذه القومية الصومالية العريقة.
بقلم: علي أحمد محمد المقدشي





