أرض الصومال بين مفارقة الاعتراف وأزمة القيم

لم يأتِ إعلان أرض الصومال انفصالها عن الدولة الصومالية عام 1991، عقب انهيار الحكم المركزي الذي اعتبره سكان الشمال حكمًا استبداديًا، كنتيجة لظرف سياسي عابر أو قرار آني، بل كان حصيلة مسار طويل من المظالم والانتهاكات الجسيمة التي تعرّضت لها تلك المناطق خلال حقبة الرئيس محمد سياد بري. فقد اتسمت تلك المرحلة بقمع واسع النطاق، وسياسات تهميش ممنهجة، واستخدام مفرط للقوة العسكرية بلغ ذروته في قصف مدن كاملة وارتكاب انتهاكات خطيرة بحق المدنيين، خلّفت آثارًا عميقة في الذاكرة الجماعية لأبناء المنطقة.
ومع ذلك، يرى بعضهم أن هذا القمع، على فداحته، وما خلّفه من اقتتال بين القبائل الصومالية وتشريد واسع طال الشعب بأكمله، لا يرقى إلى مستوى تبرير خيار الانفصال، باعتبار أن تلك المعاناة لم تكن حكرًا على منطقة بعينها، بل شملت الصومال ككل.
ومن رحم هذا الواقع المعقّد، تشكّل المشروع السياسي لأرض الصومال، رافعًا خطاب المظلومية التاريخية، ومطالبًا بالانفصال بوصفه حقًا في تقرير المصير، وضمانة لحماية الإنسان والكرامة، وسدًا في وجه تكرار مآسي الاستبداد والحكم المركزي القمعي. وقد تأسس هذا الخطاب، في جوهره، على رفض الظلم أياً كان مصدره، ورفض استخدام الدولة كأداة للقهر والإقصاء.
غير أن هذا المسار يواجه اليوم تساؤلات متزايدة، خصوصًا مع بروز توجهات تسعى إلى نيل الاعتراف الدولي عبر قنوات تفتقر، في نظر كثيرين، إلى الأساس القانوني والأخلاقي. فقد أثارت محاولات التقارب مع أطراف لا تحظى هي نفسها بإجماع دولي كامل، مثل إسرائيل، جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية، خاصة في ظل استمرار الجدل القانوني والأخلاقي حول شرعيتها وممارساتها.
ويستند مفهوم الاعتراف الدولي، في الأصل، إلى جملة من المبادئ الواضحة، من بينها احترام سيادة الدول، والالتزام بالقانون الدولي، والحصول على قبول واسع من المجتمع الدولي ممثلًا في الأمم المتحدة ومؤسساتها. ومن هذا المنطلق، فإن البحث عن الاعتراف عبر قنوات مثيرة للانقسام يطرح علامات استفهام جدية حول جدوى هذا المسار وإمكاناته السياسية.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على إعلان الانفصال، تعود الأسئلة الأخلاقية والسياسية إلى الواجهة بقوة، مع تصاعد الحديث عن مساعٍ تقودها القيادة الحالية، برئاسة عبد الرحمن عرو، نحو التقارب مع إسرائيل، وربط آمال الاعتراف الدولي بعلاقات مع طرف يواجه اتهامات واسعة بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق شعب آخر.
وهنا تبرز المفارقة العميقة: كيف لمشروع سياسي نشأ رفضًا للقمع والقتل الجماعي أن يسعى إلى شرعيته الدولية عبر بوابات ترتبط بحكم متهم باغتصاب الأرض، وفرض الحصار، وتدمير المدن، وارتكاب جرائم موثقة بحق المدنيين؟ وكيف يمكن لأرض عانت من القصف والتهجير أن تتغاضى عن مأساة إنسانية تُرتكب اليوم، على مرأى ومسمع العالم، في قطاع غزة؟
فما يجري في غزة لم يعد مجرد نزاع سياسي أو عسكري، بل تحوّل، وفق توصيف منظمات حقوقية دولية وخبراء في القانون الدولي، إلى كارثة إنسانية كبرى، تتضمن جرائم حرب وانتهاكات ممنهجة للقانون الدولي الإنساني، بل واتهامات بالإبادة الجماعية. مدن دُمّرت، أحياء سكنية أُزيلت من الخارطة، مستشفيات استُهدفت، وأطفال ونساء دفعوا الثمن الأكبر في واحدة من أكثر المآسي دموية في العصر الحديث.
وفي هذا السياق، يطرح السؤال الأخلاقي نفسه بإلحاح: أي رسالة يبعث بها مشروع أرض الصومال حين يربط سعيه للاعتراف بطرف يُنظر إليه عالميًا بوصفه جزءًا من هذه المأساة؟ وأي مصداقية تبقى لخطاب المظلومية إذا جرى تجاهل مظلومية أخرى لا تقل وضوحًا ولا فداحة؟
أرض الصومال ليست كيانًا معزولًا عن محيطه الثقافي والتاريخي، بل هي جزء من الفضاء العربي والإفريقي والإسلامي، حيث تحظى القضية الفلسطينية بمكانة مركزية في الوجدان الشعبي، لا بوصفها قضية سياسية فحسب، بل باعتبارها رمزًا عالميًا للظلم الواقع على شعب حُرم من أرضه وحقوقه. ومن ثم، فإن أي تقارب سياسي مع إسرائيل لا يُقرأ في هذا السياق كخطوة براغماتية مجردة، بل كتنازل أخلاقي يمس جوهر القيم التي يدّعي المشروع السياسي الدفاع عنها.
سياسيًا، لا يبدو هذا المسار أكثر واقعية، إذ إن الاعتراف الدولي لا يتحقق عبر علاقات ثنائية مثيرة للجدل، ولا عبر كسر الإجماع الإقليمي، بل عبر مسار طويل يقوم على بناء مؤسسات مستقرة، واحترام القانون الدولي، وتعزيز علاقات متوازنة مع الجوار، وتجنب الانخراط في محاور تزيد من الاستقطاب والعزلة.
والأخطر من ذلك أن هذا التوجه قد يُحدث شرخًا داخليًا بين القيادة السياسية والقاعدة الشعبية، فالشعوب التي عاشت القمع لا تنسى بسهولة، ولا تقبل أن تُساوَم قيمها الإنسانية مقابل مكاسب سياسية غير مضمونة. فالشرعية، في نهاية المطاف، لا تُستمد من الخارج وحده، بل من الداخل أيضًا، من انسجام القرار السياسي مع الضمير الجمعي والذاكرة التاريخية.
وفي المحصلة، تقف قضية أرض الصومال اليوم عند مفترق طرق حاسم: فإما أن يظل مشروعها السياسي وفيًا للأسس الأخلاقية والتاريخية التي نشأ عليها، مدافعًا عن العدالة وحقوق الشعوب أينما كانت، أو أن ينزلق إلى تحالفات تُفرغ الخطاب من مضمونه، وتحوّل المظلومية من قيمة أخلاقية جامعة إلى أداة سياسية انتقائية.
ويبقى السؤال مفتوحًا، وموجّهًا على نحو خاص إلى الرئيس عبد الرحمن عرو:
هل يمكن لمشروع نشأ رفضًا للظلم أن يبني مستقبله على تجاهل ظلم آخر؟
وهل يمكن للاعتراف الدولي أن يكون بديلًا عن الاعتراف الأخلاقي من الشعوب؟
إن ضمير أرض الصومال، كما يرى كثيرون من أبنائها، لا يزال قادرًا على التمييز بين الطريق الذي يحفظ الكرامة، والطريق الذي قد يمنح مكاسب مؤقتة، لكنه يترك جرحًا عميقًا في الذاكرة والوجدان. فحين يغيب البعد الأخلاقي، ويتراجع الوازع القيمي، يصبح الصمت تواطؤًا، وتتحول السياسة من أداة لتحقيق العدالة إلى عبء على التاريخ.

صلاد علمي فيذو

كاتب وباحث صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى