صدق بلا مكياج

ثمة كاتب يمكن أن يوصف بأنه شاعر البسطاء من دون أن يتعمد ذلك أو يسعى إليه، هو تشارلز بوكوفسكي. رجل عاش نصف عمره في مكاتب البريد، حياة رتيبة قاسية تتكرر فيها الأيام  بلا معنى. يتعامل مع زملاء أغلبهم مسحوقون مثله، ورؤساء متعجرفين لا يعرفون الرحمة، ونظام عمل بيروقراطي خانق لا يرحم جسده المنهك ولا روحه الساخطة ملّ من توزيع الرسائل والطرود روتين مملّ. من هنا انطلقت تجربته التي جعلت من الصدق مدرسة، ومن البساطة فنا قائما بذاته.

عرفته أول مرة من خلال روايته الأشهر «مكتب البريد»، تلك التي كتبها من قلب حياته اليومية. لا حبكة معقدة، ولا أبطال أسطوريين، بل بشرا يذهبون إلى أعمالهم بوجوه متعبة ويعودون بصمت. اكتشف القارئ أن الجمال يمكن أن يولد من التعب، وأن الحقيقة حين تروى بلا مكياج تصبح أعمق من البلاغة المصنوعة. كانت الرواية نافذة على ما هو مهمل ومنسي في الإنسان العادي.
سمّاه النقّاد «رائد الواقعية القذرة»، قذارة لم تكن ابتذالا بل مرآة لواقع لا يمكن تجميله. كتب عن السكارى ، والفقراء ، والعاطلين، وعن كل من طحنته المهنة والروتين، دون أن يمدحهم أو يزدريهم. جعل منهم صورة للإنسان كما هو، لا كما يفترض أن يكون. لم يكن يبحث عن البطولة، بل عن القدرة على الاستمرار في العيش وسط الفوضى.
لم يكن يؤمن بالزخرف اللغوي ولا بالجمل المتأنقة. كان يرى أن الكلمة الجميلة هي الصادقة، وأن الجائزة الحقيقية للكاتب هي أن يرى قارئا واحدا يجد نفسه في النص. لم يطلب تصفيقا ولا وساما، لأنه كان يكتب كشفا للحقيقة لا تجميلا لها.
وبعد نصف قرن من رحيله، ما زال صوته حاضرا كأنه يكتب من مكتبه الخشبي الصغير. يذكرنا بأن الأدب لا يُصنع في المهرجانات ولا في الجوائز، بل في عزلة الكاتب حين يختلي بأوراقه في صمت الليل، ليخط جملة أخرى لا تبحث عن الإعجاب ولا عن التصفيق، بل تمضي في طريقها إلى الصدق كما أرادها: حقيقية، بسيطة، وبلا مكياج.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى