رحيل مهندس عقيدة “الواحد في المئة”

رحل ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، وأحد أكثر الرجال تأثيرا وإثارة للجدل في تاريخ السياسة الأمريكية الحديثة. عاش في قلب سياسة الدولة العظمى نصف قرن، وصنع من الخوف عقيدة، ومن الشك منهجا. لم يكن محبوبا، لكنه كان حاضرا في كل قرار كبير اتخذته واشنطن منذ حرب الخليج حتى غزو بغداد.

بدأ طريقه مساعدا متواضعا في إدارة الرئيس جيرالد فورد، ثم صعد بهدوء وثبات حتى أصبح وزيرا للدفاع في عهد جورج بوش الأب، فأدار حرب الخليج الأولى بصرامة المحاربين. وبعد عقد من الزمن عاد إلى البيت الأبيض نائبا لجورج بوش الابن، ليصبح الرجل الثاني في الدولة، والأول في القرار.

كان تشيني من صقور واشنطن الذين لا يعرفون التردد. أقنع بوش الابن بأن الحرب هي الطريق الأقصر إلى الأمن، وأن الوقاية لا تكون إلا بالهجوم. في المقابل، كان الجنرال كولن باول، وزير الخارجية آنذاك، يحذر الرئيس من تبعات الغزو ومن مستنقع الشرق الأوسط. لكن صوت الصقور ارتفع، وغاب صوت الحكمة تحت ضجيج الخوف من أسلحة لم تظهر أبدا في العراق.

ومن تلك المرحلة وُلدت ما عُرفت لاحقا بـ”عقيدة الواحد في المئة”. فكرة بسيطة في ظاهرها، خطيرة في جوهرها: إذا وُجد احتمال ضئيل، ولو بنسبة واحد في المئة، بأن تهديدا يقترب من أمريكا، فعلى الدولة أن تتصرف كأنه مؤكد مئة في المئة. هكذا صيغت السياسات، وهكذا بدأت الحروب.

تحولت الشبهة إلى يقين، والريبة إلى دليل، والاحتمال إلى ذريعة. صار الخوف سياسة رسمية، وصار الأمن مبررا لكل تجاوز. في زمن تشيني لم تكن الأخلاق جزءا من القرار، بل من ضحاياه.

كان الرجل صلبا إلى حد البرود، لا يبتسم كثيرا، ولا يتراجع أبدا. يحمل وجه جندي أنهكته المعارك، لا وجه سياسي يسعى إلى التصفيق. وصفه خصومه بالوجه القاسي للإمبراطورية، ورآه أنصاره رجل الدولة الذي حمى الأمة يوم خاف الجميع.

عاش بقلب مريض، وزُرع له قلب جديد عام 2012، كأن القدر منحه حياة ثانية ليتأمل إرثه الأول. رحل مطمئنا إلى أنه أدى واجبه كما فهمه، وقلقا لأن العالم لم يفهمه كما أراد.

يبقى ديك تشيني رمزا لعصرٍ سادت فيه فكرة تقول إن الخطر لا يُدار إلا بالقوة، وإن السياسة لا تقوم إلا على الشك. رحل الرجل، لكن عقيدته بقيت تسكن دهاليز القرار في واشنطن، تهمس في آذان من جاء بعده: احذر دائما، واضرب أولا.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى