بين الرواية والظلال

حين تتجسد السلطة في امرأة صعبة المراس مثل مارغريت تاتشر، يتبين لنا أنّ المقارنات أضيق من أن تستوعب التاريخ، وأنّ كلّ زعامة تحجب وراءها زعامة أخرى لم تظهر بعد. فالتاريخ لا يُختصر بميزان «الأكثر» و«الأقل»، بل تتوالى فيه الروايات كما تتوالى العصور، ولكل رواية مقامها الذي لا يلغيه مقام آخر.

استوقفتني هذه القاعدة وأنا أطالع ما أثارته الصحافية البريطانية تينا غودوين في كتابها الجديد The Incidental Feminist، وهو كتاب أعاد فتح ملف حياة مارغريت تاتشر الشخصية بنبرة لا تخلو من الجرأة. وأدركت، مرة أخرى، أنّ صور القادة تُصنع غالبا في تلك المسافة الحساسة بين الوثيقة والتأويل، بين ما نعرفه وما يدفعنا الفضول إلى ادعاء معرفته. وكانت تاتشر، منذ دخولها 10 داونينغ ستريت عام 1979، مثالا على الشخصية التي تستدعي من الكاتب حذرا في الاقتراب منها.

تقول غودوين إنّ لتاتشر علاقتين خارج إطار الزواج، أولاهما في بداياتها البرلمانية، والأخرى مع سير همفري أتكنز، وإنّ وسامة الرجل كانت «نقطة ضعفها». وقد لا يدهش القارئ مثل هذا السرد، لا لأنه ثابت، بل لأنه يعود كلما صعد اسم امرأة إلى سلّم السلطة، في محاولة غير واعية لرد حضورها السياسي إلى ما وراء الكواليس الخاصة.

وتضيف الكاتبة روايات عن علاقة «ودية مفرطة» بينها وبين اللورد تيم بيل، وتشير إلى رسائل يُقال إنّها كانت متبادلة بين زوجها دينيس وماندي رايس. وتمضي في كل ذلك على حافة رقيقة بين ما يستند إلى دليل، وما يبقى في دائرة الظن. لا تثبت، ولا تنفي، وإنما تترك للقارئ أن يملأ الفراغ بما يشاء.

وعلى الجانب المقابل يقف تشارلز مور، صاحب السيرة الرسمية للمرأة الحديدية، لينفي تلك الروايات واحدة بعد أخرى، ويصفها بأنها محاولة لإضفاء حكاية على السياسة، مؤكدا أنّ الدليل وحده هو الحكم، وأنّ غيابه يجعل الضجيج أقوى من الحقيقة.

وليس في كتاب غودوين ما يُغير موقع تاتشر السياسي، بل يعيد طرح السؤال القديم الجديد: هل يمكن فصل الزعامة عن الإنسان؟ وهل، حين تدخل امرأة هذا المضمار المصنوع تقليديا بأيدي الرجال، تُقرأ سيرتها بعين تختلف لو كان صاحبها رجلا؟

لقد التقط فرانسوا ميتران هذا المزيج بعبارته الشهيرة حين قال عن المرأة الحديدية:«لها فم مارلين مونرو وعينا كاليغولا.»
وكان محمد حسنين هيكل يروي ذلك مؤكدا أنّ الرئيس الفرنسي لم يقصد التهكم ولا المديح المجامل، بل كان يرسم هيئة السلطة حين تبتسم: وجه فيه رهافة الحضور، ونظرة فيها صلابة الحكم، وهو التناقض نفسه الذي جعلها من أكثر الشخصيات إثارة للتفسير جيلا بعد جيل.

وتاتشر، في نهاية الأمر، لم تكن خصما سهلا للتاريخ. فهي واحدة من تلك الوجوه التي تفرض على الكاتب أن يقترب منها ببطء، وأن يتجنب التفضيل، لا لأنّ المقارنة محظورة، بل لأنّ المشهد كان أبعد من مجرد سباق بين رجل وامرأة. كانت ابنة مرحلة، والمرحلة نفسها لم تكن هادئة ولا عابرة، بل كانت زمنا من التحولات الكبرى، وربما لهذا بقي اسمها في الذاكرة، لا بما قيل عنها، بل بما تركته من أثر لا يزال يتردد من غير إعلان.

وفي عالم اليوم، حيث تتكشف بين الحين والآخر ملفات كانت مطمورة في أدراج مراكز النفوذ، تبرز قضية جيفري أبستين، بما أحاط بها من شبهات وشبكات مصالح، وما يُثار حول ارتباط أسماء سياسية ومالية كبرى بها، ومن بينها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وفقا لما تتناقله التقارير والوثائق المتداولة. وهي قضية لا تزال مليئة بالأسئلة، ولا يملك أحد حسم روايتها الكاملة، لكنها تُذكر، كلما عادت إلى الواجهة، بأنّ السلطة حين تختلط بالسرية تفتح أبوابا لا تُغلق بسهولة، وبأنّ المشهد السياسي المعاصر محاط بقدر من الغموض لا يقل عن غموض ما ترويه كتب التاريخ.

وتبدو سيرة تاتشر، أمام هذه الفوضى التي تتسع في عالم اليوم، أقرب إلى درس في معنى السلطة حين تتجسد في صاحبتها، وحين يصبح الحضور الفردي جزءا من زمن لا يتكرر كثيرا.
إلى اللقاء

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى