من المجد إلى الزنزانة

لم تشهد فرنسا حدثا كهذا منذ قيام جمهوريتها الحديثة. رئيس سابق للجمهورية يدخل سجن «لا سانتيه» ليقضي خمس سنوات خلف الأبواب الحديدية بتهمة تلقي أموال من العقيد معمر القذافي لتمويل حملته الانتخابية عام 2007. نيكولا ساركوزي الذي كان يلوح بيده من شرفة الإليزيه كأنما يوقع عقدا أبديا مع المجد، صار اليوم مجرد رقم في سجل النزلاء.

البلاد انقسمت كما لم تنقسم من قبل. فريق رأى في الحكم تطبيقا صارما لمبدأ «لا أحد فوق القانون»، وفريق آخر رأى فيه إهانة لرمز وطني جلس على كرسي شارل ديغول. ومع أنّ السلطات الفرنسية سارعت إلى القول إن الرئيس السابق سيخصص له جناح لائق، فإن الحقيقة تبقى واحدة: الحديد لا يلين ولو طلي بالذهب، والسجن يبقى سجنا مهما تزين بالكتب والهواء النظيف.

لكن خلف القضبان لم تكن القضية قانونية فحسب، بل سياسية وأخلاقية بامتياز. فاسم القذافي ما زال يحوم فوق الملف كظل لا يزول. خمسون مليون يورو قيل إنها انتقلت من خيمة طرابلس إلى حملة باريس الانتخابية، ثم انقلبت بعد سقوط ليبيا إلى لعنة سياسية تطارد ساركوزي في المحاكم والصحف والرأي العام. ومن المفارقات أنّ الطائرات الفرنسية التي استقبلت القذافي ذات يوم في زيارته الرسمية إلى باريس، كانت نفسها التي لاحقته وقصفت موكبه في صحراء سرت عام 2011.

التاريخ أدار دفته في مشهد يقترب من الأسطورة. المانح يصرخ طالبا الرحمة، والممنوح يقف بعد سنوات خلف القضبان. بين الصرخة الأولى ووقع الأبواب الحديدية رسالة واضحة لا تخطئها عين. لا المجد دائم، ولا السلطة حصانة.

السياسة كما تكشف هذه القصة لا تعرف الوفاء ولا الذاكرة الطويلة. باريس التي فتحت ذراعيها للزعيم الليبي يوم احتاجت إلى نفطه وعقوده، كانت أول من حمل عليه السلاح حين تغير المزاج الدولي. وما بين الخيمة البدوية في قلب العاصمة الفرنسية وزنازين «لا سانتيه» تتكثف حكاية الغرب حين تتقاطع المصالح مع الأخلاق. ترفع الشعارات باسم العدالة، وتنفذ الأحكام باسم القانون، لكن ما يتحرك خلف الستار هو دوما توازن القوى لا توازن القيم.

اليوم، بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاما على تلك الأيام، يعيش ساركوزي عزلة فكرية قبل أن تكون مادية. فرنسا التي كانت تصفق له وهو يعد بالإصلاح تراقبه من بعيد يحاول الدفاع عن إرث ملوث بالاتهامات. لكنه ما زال يرفض الاعتراف، كأن الكبرياء الفرنسي يأبى أن ينحني حتى أمام الحقيقة.

قد يقول البعض إن العقوبة رمزية أكثر منها فعلية، وإن الزنزانة ليست سوى غرفة فندقية صغيرة فيها الكتب والنوافذ، لكن الرمزية هنا هي كل شيء. فأن يسجن رئيس سابق للجمهورية الفرنسية ليس تفصيلا عابرا، بل إعلان بأن المجد لا يحمي، وأن القانون حين يطبق على الجميع يتحول إلى لحظة نادرة في التاريخ السياسي.

لقد طوى ساركوزي بذلك صفحة عصر الزعماء الكبار وفتح باب زمن السياسيين الصغار. فديغول رأى في فرنسا فكرة تتجاوز الأشخاص، أما ساركوزي فاختصرها في مشروع انتخابي ودفتر شيكات.ديغول صنع مجد فرنسا، وساركوزي باع صورتها بثمن بخس

من قصر الإليزيه إلى زنزانة «لا سانتيه» ليس الطريق طويلا في المسافة، لكنه طويل في المعنى. هو الطريق من الغرور إلى الاعتبار، من ضوء الكاميرات إلى مصباح باهت في ممر السجن، ومن وهم الخلود إلى دروس الفناء. وربما في تلك العزلة القسرية سيسمع ساركوزي أخيرا صدى عبارة قديمة يرددها التاريخ كلما سقط متكبر: من لم يحاسب نفسه حاسبه الزمن.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى