من الفكرة إلى المشروع: ولادة جديدة للعربية في الصومال

كثيرون شككوا في جدوى الزيارة، واعتبروها نوعا من “السياحة الدبلوماسية” لا أكثر، زيارة يلتقط فيها الضيوف الصور، ويتبادلون كلمات المودة، ثم يرحلون كما جاءوا. لكن الأيام القليلة التي قضاها وفد جامعة الدول العربية في مقديشو كانت كفيلة بإثبات أن في مقديشو من ينام بعين ويصحو بالأخرى، وأن العربية التي ظنها البعض قد ترملت بعد عقود من التهميش ما زالت تنبض بالحياة وتستعد للعودة بثوب جديد.

كان المشككون يتحدثون بثقة من يظن أنه يعرف النهاية قبل أن تبدأ القصة. قالوا: “مؤتمر آخر، وبيانات جديدة تضاف إلى أرشيف الكلام الجميل الذي لا يعيش أكثر من عمر الورق”. ولكن الوفد العربي، بقيادة السفير الدكتور زيد الصبان، جاء هذه المرة لا ليعزف على وتر المجاملة، بل ليقرع جرس الذاكرة الصومالية التي نامت طويلا. وعندما اجتمع الوزراء والمفكرون والأكاديميون والإعلاميون في قاعة واحدة، بدا الأمر وكأن اللغة العربية خرجت من منفاها لتقول: “أما آن للغائب أن يعود؟”

ولأن وراء كل مشروع رجلا يرى أبعد من الظاهر، كان السفير عبدالله العتيبي في المشهد، لا كضيف شرف بل كمهندس فكرة ومؤمن برسالتها. أدرك مبكرا أن اللغة لا تعود بقرارات ولا بخطب، بل حين يتحدث بها الناس في بيوتهم ومكاتبهم ويكتبون بها أحلامهم الصغيرة قبل بياناتهم الكبيرة. أما السفير الدكتور زيد الصبان، فحمل الفكرة إلى جامعة الدول العربية، وأعطاها خريطة طريق، وحولها من حلم جميل إلى مشروع واقعي، ليولد من اللقاء بين الفكرة والفعل مشروع يعيد للعربية أنفاسها في الصومال.

الورشة التي احتضنتها مقديشو لم تكن حفلة توديع ولا مناسبة للخطابة، بل مختبرا جادا لوضع اللبنات الأولى لمستقبل جديد. هناك، سئلت الأسئلة الصعبة: كيف نعيد اللغة إلى المدارس من دون أن نخنق اللغات الأخرى؟ كيف نحولها من مادة للحفظ إلى وسيلة للحياة؟ كيف نقنع الشباب بأن العربية ليست عائقا أمام المستقبل بل جسر إليه؟ خرج المجتمعون بإجابات عملية: دمج العربية تدريجيا في الإعلام والمراسلات الحكومية، إنشاء أقسام جامعية تدرس وتبحث بالعربية، وتخصيص موارد تمويل من رجال الأعمال والجاليات الصومالية في الخارج.

أما الإعلام، فقد خرج من الورشة بصفة جديدة: لم يعد مجرد ناقل للأخبار، بل شريك لغوي في معركة الوعي. واتفق على أن المشروع يحتاج إلى مال وصبر، وأن الخطابات الرنانة مهما ارتفع صوتها لا تُدرِّس حرفا واحدا في مدرسة.

العجيب في الأمر أن ما بدأ كزيارة بروتوكولية انتهى كورشة تفكير جماعي. وبدل أن يقال: “زارونا وذهبوا”، صار الحديث عن لجان عمل وخطط متابعة ومراحل تنفيذ. بدا أن مقديشو هذه المرة لم تفتح أبوابها للمجاملة، بل لمراجعة الذات، وكأنها تقول للعربية: “عدنا إليك عود الصدى إلى الصوت”.

قد يتعثر المشروع في الطريق، فكل بداية تشبه طفلا يتعلم المشي، لكن الخطوة الأولى قد وضعت، والاتجاه أصبح واضحا. لقد استعادت مقديشو شهيتها للعربية، واستعادت العربية جمهورها، وعادت الأسئلة الجميلة التي كانت تؤجل دائما: من نحن؟ وأين لغتنا منّا؟

العبد لله يرى أن ما جرى في تلك الأيام القليلة أهم من كل الخطب السابقة؛ٍ لأن العربية لم تعد فكرة رومانسية يتغنى بها الأدباء، بل مشروعا وطنيا له لجان وخطط وتمويل ومتابعة. وحتى لو طال الطريق وتعثرت التفاصيل، فحسبه أنه أيقظ في الوجدان الصومالي إحساسا قديما بالانتماء، وأثبت أن اللغة ليست وسيلة للتخاطب فقط، بل وسيلة للحياة، ومن استعاد لغته استعاد نفسه.
إلى اللقاء

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى