مرآة الفضيلة

في حياة الإنسان تبقى الصداقة من أسمى الروابط التي تمنحه معنى الوجود الاجتماعي، وتخفف من وحدة الطريق في رحلة العمر. وكثيرا ما أجد نفسي مضطرا إلى العودة إلى المعلم الكبير أرسطو، وإلى تقسيمه الفريد والعميق لمعنى الصداقة كما ورد في كتابه الأخلاق إلى نيقوماخوس، ذلك التصور الذي ما زال حيا بعد أكثر من ألفي عام. فحين نتأمل العلاقات الإنسانية في عصرنا، ندرك أنها تدور، بوعي أو بغير وعي، حول ما وصفه أرسطو في حكمته الخالدة.

يرى أرسطو أن الصداقة ليست نوعا واحدا، بل ثلاث مراتب تتمايز بقدر ما تتنوع دوافعها. وفي أدناها تقوم صداقة المنفعة، تلك التي تقوم على تبادل المصالح. إنها علاقة مؤقتة، يشدها الحبل المصلحي ويفكها زواله. لا تقوم على محبة لذات الإنسان، بل لما يملكه أو لما يستطيع أن يقدمه. فإذا انقطعت المنفعة انقطعت الصلة، لأن الأساس كان هشا منذ البداية. ولهذا وصفها أرسطو بأنها أدنى صور الصداقة، لأنها تعامل الناس كوسائل لا كغايات.

ثم تأتي صداقة المتعة، وهي أعمق درجة من سابقتها، لكنها تبقى أسيرة العاطفة العابرة. إنها الصداقة التي تقوم على انسجام المزاج أو المشاركة في الفرح واللعب والحديث اللطيف. يجتمع الأصدقاء فيها لأن أحدهم يبهج الآخر، فإذا غابت المتعة أو تبدلت الأحوال تلاشت العلاقة كما يذوب الملح في الماء. أرسطو يعدها صداقة طيبة ما دامت تمنح الإنسان سعادة آنية ، لكنها تظل ناقصة لأنها تقوم على اللذة لا على القيم.

أما الصداقة الرفيعة فهي صداقة الفضيلة والخير، وفيها يبلغ الإنسان أسمى معاني الوجود الإنساني. لا يحب الصديق صديقه لمنفعة أو متعة، بل لأنه يرى فيه انعكاسا للخير الذي يؤمن به. إنها علاقة بين نفوس نبيلة، كل منها يريد للآخر الخير كما يريده لنفسه، ويعينه على السير في طريق الاستقامة. هذه الصداقة لا تزول، لأنها تستند إلى ما هو خالد في الإنسان، من خلق وعقل وضمير.

وهكذا يرسم أرسطو هرما للصداقات، في أسفله المنفعة، وفي وسطه المتعة، وفي قمته الفضيلة. والإنسان في نظره لا يكتمل إلا بصديق فاضل يعكس له أجمل ما فيه، ويعينه على أن يسمو فوق ضعفه ويقترب من كماله الإنساني. فالصداقة في معناها الأسمى ليست تبادلا للمصالح ولا تسلية زائلة، بل اتحاد في الخير، ومرآة للروح، وعهد بين القلوب النبيلة على الثبات في طريق الفضيلة.
إلى اللقاء

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى