سقوط بلا انكسار

في التاريخ قادة لم تخلدهم الانتصارات، بل لحظة الصدق عند الهزيمة.
يحضرني من هؤلاء عمر بن عبد العزيز، الخليفة الذي لم يعرف السلطان عنده معنى الترف أو الغلبة، بل معنى التكليف والمسؤولية. كان يرى أن العدل أثقل من التاج، وأن طريق الإنصاف أطول من أعمار المصلحين. قال في أواخر أيامه: “وددت أن أقيم العدل ولو ساعة ثم أموت.”
لم تكن تلك عبارة زهد، بل اعتراف من رجل رأى أن الطهر لا ينتصر دائما، وأن النية الحسنة لا تكفي وحدها لإصلاح أمة أنهكها إرث الظلم. رحل فقيرا، لكنه ترك في ضمير الأمة أثرا لا يزول، إذ علم الناس أن السلطة بلا عدل عبء، وأن الهزيمة مع الصدق أنبل من النصر مع الزيف.

وبعد قرون، وقف جمال عبد الناصر أمام أمة مكلومة عام 1967، معلنا تنحيه بعبارة دخلت وجدان العرب قبل كتب التاريخ: “لقد تحملت المسؤولية كاملة، وقد قررت أن أتنحى عن منصب رئيس الجمهورية.”
لم يختبئ وراء الأعذار، ولم يعلق الخسارة على شماعة الظروف أو القادة. اختار أن يتحملها وحده، فبكته الجماهير لا لأنهم خسروا الحرب، بل لأن قائدهم اختار الحقيقة على الكذب، والشجاعة على التزييف. كان خطابه درسا في الكرامة السياسية، إذ رفع الهزيمة إلى مرتبة الصدق، وجعل من التنحي بطولة لا تقل عن النصر.

وفي العصر الحديث، برز ميخائيل غورباتشوف، آخر قادة الإمبراطورية السوفييتية، ليواجه سقوطا مختلفا في الشكل لا في الجوهر. حاول أن ينقذ البنيان بالإصلاح، فإذا به يشهد انهياره بين يديه. ومع ذلك لم يهرب، بل واجه النهاية بصفاء من يدرك أن المجد لا يقاس بالبقاء في القصر، بل بالصدق في المحاولة. قال في خطابه الأخير: “لقد فشلت محاولتنا في إنقاذ الاتحاد، لكننا حاولنا بصدق أن نمنح الناس الحرية.” كانت تلك كلمات وداع لإمبراطورية عظيمة، لكنها أيضا شهادة ميلاد لرجل ظل مرفوع الرأس، لأنه اختار أن يقول الحقيقة وهو يودع المجد.

هؤلاء الثلاثة، عمر بن عبد العزيز، وعبد الناصر، وغورباتشوف، لم ينتصروا في المعارك، لكنهم انتصروا في امتحان الضمير. لم يكونوا ملائكة، بل بشرا أدركوا أن الاعتراف بالهزيمة هو آخر أشكال الشجاعة، وأن الصدق في لحظة السقوط أبلغ من الزهو في ساعة النصر.
فكم من منتصر سقط في امتحان الصدق، وكم من مهزوم ربح احترام التاريخ.

القوة الحقيقية ليست في الظفر، بل في القدرة على مواجهة الهزيمة دون إنكار، وفي قول الحقيقة حين يجبن الجميع. فالتاريخ، على قسوته، لا يرحم المزيفين، لكنه يصفح لمن يعترف.
إلى اللقاء

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى