جين أوستين… الثورة الهادئة من النافذة الريفية

لم تكن جين أوستين تعرف أنها تمهّد لعصر جديد في الرواية وهي تكتب في بيت صغير في جنوب إنجلترا. فتاة ريفية تراقب العالم من خلف الزجاج، لا من مقاعد النبلاء. لكنها رأت ما لم يره الكتّاب الكبار يومها، أن العواطف ليست زهورا في البساتين، بل موازين دقيقة بين القلب والعقل والكرامة.

استطاعت جين أوستين أن تغيّر صورة المرأة في الأدب الإنجليزي، مثلما غيّر سيدني بواتييه صورة الإنسان الأسود في السينما الأمريكية. كلاهما خرج من الهامش ليعيد تعريف المركز، لكن بأسلوبين مختلفين. بواتييه واجه سلطة التمييز العنصري في هوليوود مواجهة علنية شجاعة، فيما واجهت أوستين سلطة العرف الاجتماعي والطبقي من داخل المجتمع نفسه، بالكلمة لا بالمجابهة، وبالذكاء لا بالصوت العالي. كلاهما جعل من الفن وسيلة مقاومة راقية، ومن الهدوء سلاحا ضد الظلم، ومن الإبداع طريقا لتغيير الوعي الإنساني.

في «الكبرياء والهوى» جعلت من إليزابيث بينيت والسيد دارسي مرآة لطبقتين، لا لعاشقين فقط. لم تكتب قصة حب، بل صراعا صامتا بين زمن قديم يخاف من التغيير وزمن جديد يجرؤ على السؤال. هل للإنسان أن يحب خارج نسبه؟ وهل يمكن للعقل أن ينتصر على الكبرياء دون أن يفقد احترامه لنفسه؟ تلك كانت معركتها الحقيقية.

كانت ثورتها هادئة، لكنها أعمق من ضجيج الثوار. لم ترفع شعارا، ولم تكتب بيانا، بل حرّكت المجتمع بحوار أنيق ونظرة طويلة من نافذة بيت صغير. كتبت لتقول إن الحرية لا تحتاج إلى معارك، بل إلى قلم يعرف كيف يزن الكلمة.

ما زالت أعمالها تُقرأ كأنها كتبت أمس، لأن المجتمعات تغيّرت، لكن السؤال لم يتغيّر: هل ما زال الحب يقاس باللقب؟ وهل ما زال الأصل أثقل من القلب؟

كتبت جين أوستين لتذكّرنا أن الكبرياء لا يحمي القلب، بل يعزله، وأن الهوى حين يتهذّب بالعقل يصبح وجها آخر للكرامة.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى