المقصورة 10

كنت أظن أن علاقتي بالسينما توقفت عند حدود الماضي، عند الأبيض والأسود، عند تلك اللقطات التي كانت الروح فيها أوضح من الصورة، والتمثيل فيها أصدق من الكلام. كنت أعود إلى أفلام فاتن حمامة وأنور وجدي وهنري فوندا كما يعود المغترب إلى وطنه الأول، أستعيد منها رائحة البساطة ونقاء العين الأولى التي رأت الفن قبل أن يفسده الزخرف.

لكن في هذا الشهر، وبينما كنت أتنقل بين أعمال جديدة، توقفت أمام فيلم The Woman in Cabin 10. لم أكن أبحث عنه، لكنه وجدني كما تجد الأمواج جسدا تائها في البحر. فيلم غامض يسبح بين الحقيقة والوهم، وتطل فيه “كييرا نايتلي” بوجه يبدو كأنه قادم من زمن آخر، من تلك اللقطات التي كان المخرجون فيها يضبطون الضوء على ملامح الصدق لا على بريق العدسات

في البدء ظننته فيلما عن جريمة بحرية عادية، ثم اكتشفت أنه عن عزلة الإنسان الحديثة، عن خوف المرأة من أن تُكذَّب حتى وهي ترى الدم بعينيها. البحر في الفيلم ليس خلفية، بل مرآة تعكس اضطراب النفس لا صفاء الأفق، والمقصورة ليست مكانا، بل عقل البطلة حين يحاصرها الشك، ويحاصرها الآخرون بعبارة: “أنتِ تتخيلين”. لم أرَ دماء كثيرة، لكني رأيت خوفا شديدا كأن البحر كله يتآمر على الحقيقة

عندما انتهى الفيلم، لم أطفئ شاشة الحاسوب على الفور. بقيت أحدّق في الانعكاس على الزجاج، وأدركت أنني تغيّرت. لم أعد ذلك المشاهد الذي يقيس الفن بعدد الظلال في الصورة القديمة، ولا ذاك الذي كان يرى الجمال في البياض وحده. صرت أبحث عن الدهشة، عن القصة التي تجعلني أتنفّس توتّرها وخوفها، سواء كانت بالأبيض والأسود أو بأعلى دقات العصر.

اكتشفت أن السينما ليست ألوانا ولا عصورا، بل إحساسا واحدا يتكرر بألف شكل، إنسان يبحث عن المعنى وسط العاصفة. وفي هذا الشهر بالذات وجدتني أبحر مع الجديد، لا هربا من الماضي، بل وفاء له، لأن من أحب الأبيض والأسود لا يخون الضوء حين يتغيّر، بل يتبعه إلى آخر الموج، حيث تبدأ الحكاية من جديد

المرأة في المقصورة 10 ليس فيلمًا مثاليًا، لكنه صادق في منطقه. بطيء أحيانا ، لكنه يعرف كيف يغلق الباب ويتركك حبيس المقصورة مع بطلة لا تدري أهي مجنونة أم مبصرة. إخراجه نظيف، وصوته الداخلي عميق، ومن يشاهده بحثا عن الرعب قد يخيب أمله، أما من يشاهده بحثا عن الإنسان حين يتأرجح بين الحقيقة والوهم، فسيجد نفسه فيه

وجدت في هذا الفيلم ما كنت أفتقده في الأبيض والأسود، وجدت اللون الذي يشبهنا نحن اليوم، رماديا، حائرا، صادقا رغم الغموض.

إلى اللقاء

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى