معضلة الأمن الدولي في السودان، كلاكيت “سياسي” للمرة العاشرة

هناك موروث إفريقي يعود لقبيلة “Herero” أشهر القبائل الإفريقية التي واجهت أول حالات الإبادة الجماعية في القرن العشرين، تقول فيه “القوى الكبرى لا تشن الحروب بل تتلاعب بالسلام”.

المتتبع لعدد إجتماعات مجلس الأمن حول السودان سيجد أنه ومنذ ٢٥ أبريل ٢٠٢٣ (أي بعد بداية التمرد على الدولة السودانية الوطنية بعشرة أيام) حتى يونيو الماضي من العام الجاري أن هناك تسعة إجتماعات ما بين إجتماعات مفتوحة ومغلقة، فما الذي سيسفر عنه الإجتماع العاشر؟

ما حدث مؤخراً من تطورات ميدانية هامة في محور عمليات شمال كردفان من بسط سيطرة الجيش السوداني على “جبرة الشيخ” ومدينة “بارا”، أما في فاشر السلطان فنجحت القوات المسلحة السودانية من تحييد مجموعة من مليشيا الدعم السريع المتعددة الجنسيات بإلإضافة إلى تحييد مجموعة من المرتزقة القادمين من خارج السودان، وهذا قطعاً سينعكس على إجتماعات مجلس الأمن الدولي المزمع عقدها اليوم بخصوص مستجدات التصعيد في كردفان ودارفور، صحيح أن إجتماع اليوم لن يسفر بجديد، ولو خرج ببيان فهو سيندد فيه يإستمرار المعارك وجرائم الحرب، وإستمرار حصار مدينة الفاشر والكارثة الإنسانية التي تمر بها، ولكن الإجتماع في حد ذاته يحمل في طياته دلالة سياسية فهو يحمل مهمتين:

  المهمة الأولى: محاولة لإرباك المشهد الداخلي السوداني الذي يسير مسرعاً وبثبات في صالح قيادة الدولة الوطنية السودانية، وهذا ما تعمل لأجله الإرادة الدولية “واشنطن” قبل شهر سبتمبر المحدد لإجتماع الرباعية، والذي تمني فيه نفسها بقرب حسم المعارك العسكرية بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع لصالح الأخيرة وسقوط الفاشر بيد المليشيا حتى يتسنى لها رسم خارطتها المستقبلية في منطقة القرن الأفريقي وجنوب وادي النيل.

المهمة الثانية: مهادنة الشارع السوداني الذي إختار الإنحياز  للقيادة الوطنية الممثلة للشعب ومؤسساته الشرعية، فالإرادة الدولية تدرك تنامي الوعي السياسي الذي بات عليه الشعب السوداني بإختلاف توجهاته وإنتماءاته العرقية، وهي تدرك بإن ما حدث بعد ١٥ أبريل ٢٠٢٣ وما أفرزه من تحديات شكلت واقع سوداني جديد لم يحسب حسابه، وهو ما فرض عليها اليوم المماطلة المغلفة بغلاف المهادنة، فهي تريد كسب مزيد من الأوراق في الشارع السوداني ولا تريد إستفزازه، فهي وحدها تدرك ما سيسفر عن ذلك لو حدث، فعودة قوة إرتداد الموجة الشعبية والتي بلا شك ستعصف بالكثير إذا عادت، فهي قطعاً ستجبر الجميع للعودة لمربع الصفر الذي يتجنبوه وهو عودة السودان لما قبل ٢٠١٩، وفي ذات الوقت فهي وإن كانت راغبه إلا إنها لا تريد الظهور بصورة داعمة لحكومة موازية شكلتها مليشيا متعددة الجنسيات، تدرك تماماً أن الإعتراف بها سيقود لعواقب وخيمة ليست مستعدة لدفع ثمنها ولا تحمل كلفتها السياسية والأمنية.

تدرك قيادة مليشيا الدعم السريع بإن لن تقوم لها قائمة إلا بسقوط الفاشر في براثنها وهذا لم يتحقق في أوج قوة مليشيا الدعم السريع وسيطرتها على الأرض، ولا حتى أثناء جولة قائدها حميدتي لدول الجوار الإقليمي للسودان في يناير ٢٠٢٤، ومثلما تدرك مليشيا الدعم السريع تلك الحقيقة يدرك المجتمع الدولي بإختلاف رؤاه السياسية حول الأزمة السودانية بأن هناك وجهة نهائية باتت تلوح في الأفق لسودان جديد بلا مليشيات، رديفه هذه المره ليس معنوياً بل عملياً يبدأ من الخرطوم وينتهي في سواحل الأطلسي غرباً، والمتتبع لسير العمليات الأمنية الإستخباراتية في تلك المنطقة سيدرك مكامن الإختلاف والتوافق بين الأطراف الدولية حول الأزمة السودانية.

ما هي معضلة الأمن الدولي في السودان؟!

تقول بعض الأكاديميات الفرنسية انه وفي منتصف سبتمبر من عام ٢٠١٣ إجتمع وزير الخارجية الأمريكي آنذاك”جون كيري” مع وزير الخارجية الفرنسي “لوران فابيوس” بحضور وزير الخارجية الفرنسي الأسبق “برنار كوشنير” وتزامن ذلك الإجتماع بتصاعد موجة الإحتجاجات الشعبية التي شهدتها الخرطوم ومدن سودانية أخرى وكان الوضع يهدد بالإنفجار بسبب قرار الحكومة السودانية بقيادة الرئيس عمر البشير رفع الدعم عن المحروقات والذي أدى إلى إرتفاع الأسعار، وكان المجتمع الدولي متمثلاً بالإرادة الدولية “واشنطن” يعد العدة لإعادة تشكيل السودان ومنطقة القرن الإفريقي قاطبة – فمشروع القرن الأفريقي الجديد الذي ظل محبوساً في الأدراج الإستخباراتية منذ عام ١٩٩١ لن يتحقق إلا عبر الخرطوم – فبدأ “كيري” الحديث قائلاً ” حاول السودان إيجاد لغة حوار معنا ولكنه توقف بعد ما أدرك أن كلفة ذلك قد يدفعها من مستقبله إذا تم إسقاطه من الخارج، فقبل الإنقاذ كنا ندعم الصادق المهدي رغم فشل مسيرته السياسية فلقد طرد مرتين، واحده عام ١٩٦٩ والثانية عام ١٩٨٩ ولكن لم يترك لنا سودان الإنقاذ فرصة لتكرار ذلك، ولكن اليوم تبدو الخرطوم شبه مهيئة للتغيير”، فرد عليه “فابيوس” والذي كان معروفاً عنه أنه يحمل رؤية سياسية أمنية واستخباراتية تجاه السودان تحديداً والتي تمثلت في مشروع ما يطلق عليه بالفرنسية “l’espace sahélien” وتعني باللغة العربية “محيط الساحل”  قائلاً “سقوط عمر البشير ليس سهلاً، وإستمرار الإنقاذ في الحكم حتى الأن يجب أن نضعه في عين الإعتبار، ولا ضرر من التعامل معه خاصة أنه أبدى تعاوناً مع باريس منذ عام ١٩٩٤ ونال بذلك رضى المجتمع الدولي، ويجب أن نعترف أن البشير ليس المهدي”، لتأتي مداخلة “كوشنير” قاطعة وتم ختم الإجتماع بها بدون نتيجة أو بمعنى أصح بدون إتفاق قائلاً ” الدول المالكة للحضارات لا تُغتال بل تنتحر، والسودان مشكلته أن فكرة الدولة لم تتجذر في وجدان معظم نخبه، وهذه المعضلة التي يواجهها السودان هي ذات المعضلة التي تواجه دبلوماسينا في التعمق لفهمها”

من حسن حظي أنني كنت شاهدة عيان للحالة العامة السودانية التي سبقت وتلت ذلك التوقيت التي بدأ فيه الإفصاح الدولي حول مستقبل سودان البشير، ولا أقول التوقيت الذي بدأت فيه تتشكل الرؤية الدولية حول سودان البشير، لأن تلك الرؤية لم تكن فقط في إدراك المجتمع الدولي بل كانت محل إهتمام لكبرى الأجهزة الأمنية وأعتى الشبكات الإستخباراتية الدولية، بدءاً من شبكة “AMI” والتي بدأت عملها منذ عام ٢٠٠٤ وتم طردها عام ٢٠٠٩، ورغم أنها أعادت تشكيل هياكلها الداخلية عام ٢٠١١ إلا إنها لم تتجزء أن تكرر عبثها في السودان إلا في عام ٢٠٢٠ لتأتي متخفية في ثوبها الجديد تحت إسم “PUI”، مروراً بما يعرف اليوم بـ “DTI” الأمريكية والتي كانت تعمل قبل عام ٢٠١٩ كواجهات أوروبية مثل “NED” و “NDI”  والتي كانت جميعها تعمل على تمهيد خط سير نشاطها قبل الثورة السودانية، وفي ذات الوقت كانت تعمل لتكوين ملفات لشخصيات سودانية نافذة، وما إقالة “طه عثمان أحمد الحسين” المدير السابق لمكتب الرئيس البشير بقرار سياسي وما أعقبته من أحداث درامية والتي لم تكن خافية عن أبسط مواطن سوداني منها ببعيد، خاصة بعد رؤية “طه عثمان” وهو يصول ويجول شرقاً وغرباً سعيداً بدوره كأداة طيعه في مسيرة التقاذف يمنة ويسرى التي مارسته عليها كافة الأجهزة الأمنية الأجنبية، والغريب شعوره المستمر بالإستمتاع والمواصلة، ولكن شعورنا بالغرابة ينتهي بعد أن نعي أن هناك فرقاً بين شخصية فكرية مستقلة إختلفنا أو إتفقنا معها، وبين شخص خدمه تملقه وخنوعه وطمعه في الوصول إلى ما وصل إليه، فالفرق كبير بين المرتكز الذي يراه صاحبه إحياءاً يستحق الموت لأجله وبين الهاوية التي تدفع المرء دفعاً أن يهرول إليها مسرعاً ظناً منه أنه سيشكل فارقاً في ذاكرة شعوب دأبت منذ بدء الخليقة أن لا تتذكر الهاوية بمقدار ما تتذكر كمية المتساقطين فيها مع قناعتي الكاملة بحرية الإختيار التي حبانا الله بها كبشر لنا مطلق الحرية بإختيار ما الذي نريد أن نكون عليه لا ما نُجبر على فعله، فلا إجبار في الإستقامة الأخلاقية ولا إجبار في ركّلها وقس على ذلك.

سيواصل مجلس الأمن عقد اجتماعاته حول السودان ما دامت هناك رؤية حقيقية للقيادة السودانية  في بناء سودان جديد بلا مليشيات، وما دامت هناك عقيدة عسكرية أصبحت بمثابة الطريق الوحيد لإسترداد الدولة السودانية الوطنية كاملة، وما دامت القيادة السودانية مستمرة في إلجام المحيط الإقليمي والدولي، وما دام الشعب السوداني ماضٍ في إستئصال كافة الأدوات المقوضة لسيادة الدولة الوطنية.

د.أمينة العريمي

باحثة إماراتية في الشأن الإفريقي

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
زر الذهاب إلى الأعلى