سارتر والوهم الأخير

في ربيع عام 1980، كان جان بول سارتر يقترب من خط النهاية. أنهك المرض جسده، لكن ذهنه ظل يقظا، كمن يقبض على الجمر الأخير من وعيه ليواجه به الأسئلة الكبرى التي لازمته طوال حياته. في تلك الأيام، جلس أمامه تلميذه وأمين سرّه بيني ليڤي، في حوارات مطولة نُشرت تحت عنوان L’Espoir maintenant «الأمل الآن». وما إن صدرت حتى انقسم القرّاء بين من رآها اعترافا متأخرا وتراجعا عن الإلحاد، وبين من قرأها كتأمل هادئ في المسائل الأخلاقية، دون أن يتخلى صاحبها عن جوهر موقفه الفلسفي

في «الأمل الآن»، لم يكتف بيني ليڤي بطرح الأسئلة، بل أمسك بزمام الحديث وساقه إلى أرضه المفضلة: التوراة، والبعد الروحي، وما يسميه المطلق. سارتر، الذي قضى عمره يرفع راية الإلحاد، بدا وكأنه يتلمس فجأة قيما عليا تتجاوز الإنسان والتاريخ. ومن هنا وُلدت الأسطورة الصحفية المثيرة: «سارتر تراجع»

لكن الحقيقة لم تكن بتلك الدراما التي أحاطت بقناعاته. فلم يسلم الرجل روحه لمحراب الإيمان، ولم يدخل من باب بيني ليڤي إلى الدين، بل ظل يمارس لعبته الفكرية الأثيرة: إعادة تشكيل المفاهيم، أيا كان مصدرها، وتحويلها إلى مادة للنقاش العقلي، حتى لو جاءت من نصوص مقدسة. أما «المطلق» عنده، فكان مبدأ أخلاقيا أعلى، لا إلها يُعبَد

سيمون دي بوفوار، التي عرفت رفيقها كما يعرف الملّاح تضاريس البحر، لم تمهل القائلين بالتراجع طويلا، مؤكدة أن الأمر هراء. وأوضحت أن سارتر المريض كان أكثر هدوءا وأقل حدة، لا أكثر ولا أقل. حتى في لحظات الوهن الجسدي، قالت إنه بقي وفيا لإلحاده، رافضا اختصار معنى الوجود في وعد غيبي.

أما بيني ليڤي فكان مخلصا لأستاذه، متمسكا في الوقت نفسه برؤيته الروحية الخاصة، وحاول أن يجرّ أستاذه نحو أفقه الخاص. ولعل ذلك هو ما صنع وهم “التوبة الفلسفية” الذي غذّته الصحافة، من غير أن يغير شيئا من جوهر الرجل، إذ ظل سارتر حتى النهاية يؤكد أن الإنسان -لا السماء- هو من يكتب فصول حياته.

إلى اللقاء

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى